بعض الناس يفتن بعشق الصيد فيمضي نهار الصيف الحارق أو ليالي الشتاء الباردة في الصحاري وبين الهضاب والجبال مع طيره أو دابته و باروده بحثاً عن الظبي والأرنب والحباري أو..، والغريب أن صاحبنا يجد في هذا الفعل متعته، ويشعر رغم معاناة لفح الصحراء أنسه وسلوته مع أنه ربما عُد من أصحاب المال وذوي النعيم والترف، الذين تعودوا على حياة الراحة وألفوا صخب المدينة وضجيج الحياة فيها، ولذا غالباً ما يقابل فعله هذا من قبل من يعرف ما هو فيه من نعيم بقولهم: (وش موزيه، الله معطيه وفاتح عليه، وهو يدور الشقاء!!)، وآخر منا مولع بالسفر فقد يستدين لقضاء أيام معدودة هنا وهناك ويعود من رحلته هذه وهو محمل بثقل الذنب وهم وذل الدين الذي علق برقبته!!، والثالث يعشق بشكل غريب جمع القطع الأثرية فهو على فقره أشد ما يكون تمسكاً بالمقتنيات القديمة، يشترى ما يزهد به الناس مهما كان ثمنه، ويرفض أن يبيع ما عنده ولو طلبه راغبه بمبالغ مغرية إذ إن قيمته المعنوية في ميزانه الخاص ليس لها ثمن، يحدثك عن سيف قديم، أو سيارة لا أثر لها في عالم الوجود، أو زير من أيام الدولة العثمانية أو صينية أو حتى لوحة فنية رسمها أو..!!، وهناك من هو مولع بجمع الكتب والمخطوطات وهذا نادر في حياة الناس اليوم فهو لدى الغربيين أكثر!!، وفي عالمنا المحلي المعاصر افتتن البعض بالإبل، فهو يجد أنسه وينشد راحته في جلسته قريباً من الذلول، يخاطبها، يمازحها، يأنسها وتؤانسه، يراقبها ويتأمل فيها، ولو سألته عن سر تعلقه بهذا الناقة لبادرك القول بأن ذلك فتنه، وقد يعقب بعد هذه الإفادة بالدعوة القلبية بأن يبتليك الله بعشقها حتى تعرف كيف نار الشوق تحرق قلب صاحبها.. سبحان الله فعلاً العشق كما قال الأصمعي على لسان أعربية سألت عنه (ذل وجنون)!!.
السؤال هنا: ما سر هذا العشق -الذي يخرج عن دائرة التعلق القلبي المألوف إلى أن يصبح بالفعل جنوناً- لهذا الأشياء التي لا تضيف في الغالب شيء يذكر إلى حياة صاحبها بل ربما تتعبه وتضيف إلى همومه هماً جديداً، وقد يتولد عن هذا التعلق القلبي الغريب فقر إلى فقر بعد تراكم الديون وتزايد متطلبات المضي في هذا السلوك حتى النهاية، ودخول حلبة المنافسة التي ما أنزل الله بها من سلطان؟، هل هذا العشق خاصة للأبل هروب من عالم الإنسان إلى دنيا جديدة يجد فيها العاشق الولهان معاني وقيماً يحبها ويتطلع لامتثالها في حياتنا الواقعية بعد أن افتقدها في دنيا الناس!!، وقس على ذلك عشق الحيوانات الأخرى كالكلب في الغرب الذي يتسم بالوفاء أو القطط أو الطيور أو..!!.
إن الله عز وجل سخر لنا هذه الأرض ومن عليها وربط بيننا وبين الأمم والمخلوقات التي تسبح ربها وتذكره بوشائج عدة قد تكون غير منظورة ولكنها موجودة، وقد تبادلنا هذه المخلوقات الحب حتى وإن كانت جامدة صلدة، فهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاطب «أُحد» المعروف فيقول له (أثبت فإن فوقك نبي وصديق وشهيدين)، ويقول عنه (أُحد جبل يحبنا ونحبه).
نعم.. إن من الطبيعي أن يحب الواحد منا مكاناً ما لما يحمله في قلبه من ذكريات جميلة فيه، أو لما فيه من صفات ولما له من سمات لكن أن يكون المكان سواء أكان سهلاً أو جبلاً أو هضبة يبادلنا نفس المشاعر ويتعلق بنا كما نتعلق نحن بها.. هو ما لم نكن نتصوره!.
نملة نكرة تخطب عالم النمل حولها تحذرهم الهلكة، نتيجة ضعفها وقلة حيلتها، ولكنها في المقابل تحسن الظن بسليمان عليه السلام وجنوده، ولذا ختمت الآية بقول الله على لسانها {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ}.
عموماً نحن نهوى ونعشق لأننا نحصل في المقابل في ظني على شيء من المشاعر والأحاسيس التي قد لا يعبر عنها بالقول ولكن نلتقطها من السلوك والفعل خاصة من مثل الإبل التي أمرنا الله عز وجل في النظر والتأمل والتفكر بها إذ قال عز من قائل عليما،{أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}، ولكن أن يزيد هذا الهوى عن حده الطبيعي ويصير التعلق مخالطاً لشغاف القلوب وسبباً لتضيع الذرية والتهاون بالمسئولية والتنافس والتفاخر والتكاثر وباباً للتباري بالألقاب وقرض القصيد وإلقاء الكلمات و..فهذا ما لا أستطيع أن أجد له تفسيرا!!.
ومن أراد أن يعرف التفاصيل وسر هذا المقال فليقلب في قنواتنا الشعبية ليسمع ويرى بأم عينيه من نحن في ظل هذا الهوس والعشق والجنون الذي يبعث على الأسى ويثير الشجون ويدعو إلى إعادة التفكير من جديد في بعدنا الحضاري في ظل التوظيف الأسوأ لمعطيات عصر العولمة الجديد!! دمتم بخير وإلى لقاء والسلام.