كل موطئ قدمٍ في مكة المكرمة ومشاعرها الطاهرة ينطق بلسان فصيح عن مواقف وأحداث وأشخاص منذ آلاف السنين، ويتحدث بلغة الذكرى البليغة عن رسلٍ وأنبياء، ورجال ونساء صالحين وصالحات، أو طالحين وطالحات، ويعرض للمتأمل المتدبِّر لوحةً في إثْر لوحة، تبرز فيها عِبَر وعظات، ومعالم شاهدات.
كل موطئ قدمٍ في مكة المكرمة مكتنزٌ بما لا يكاد يُحْصَى من آثار الأقدام، تلك الآثار التي سرعان ما ينساها الناس، ويحصيها الخلاق العلام، لا يخفى عليه منها خافية.
حينما نظرتُ إلى الكعبة المشرفة بعين القلب الفاحصة رأيت من صورتها البديعة عجباً، وتخيلت أنني أرى صفوفاً من الملائكة الكرام يملؤون المكان، يفعلون ما يأمرهم به الله سبحانه وتعالى مطيعين خاضعين خاشعين، وذهب بي الخيال بعيداً فرفعتُ بصري إلى الأعلى أتأمل الفضاء الفسيح البعيد فوق الكعبة، فرأيتُ صفوف الملائكة ترتفع طبقات مضيئة حتى تبلغ السماء، ورأيتُ البيت المعمور هنالك في ملكوت الله الأعلى يطوف به سبعون ألف ملك مسبحين محمدين ذاكرين مكبرين، لربهم خاشعين، وزاد خيالي من إيغاله في صوره البديعة فتخيلتُ بيوت أهل مكة تطل على الكعبة من نواحيها، وعلى شرفاتها سادات قريش يملؤون المكان زهواً وكِبْراً، ولا يرون إلا ما يحيط بهم من مظاهر سيادتهم، وقوتهم، وثرائهم، وعنفوانهم، ولا يستطيعون أن يذهبوا بأذهانهم وتفكيرهم إلى أبعد من ذلك، وقلتُ في نفسي: سبحان الله العظيم، ما أسوأ غفلة الإنسان حين تقوم حاجزاً من ظلام قاتم يحول بينه وبين رؤية النور الساطع.
بل لقد تخيلتُ وأنا أتأمل أعالي الكعبة تلك الجرأة المذمومة التي جعلت كفَّار قريش يثقلون كاهل هذا البناء الجليل بأصنام وأوثان منحوتة من الحجارة التي لا ترى ولا تسمع ولا تحسُّ، يتوجهون إليها بالعبادة، ويبتهلون إليها بالدعاء، ويتقربون بها - بزعمهم - إلى الخالق العظيم، وشعرت حينها بحسرة على عقول البشر التي يمسك الوهم بزمامها، ويجعلها تفعل ما تنفر منه الأنعام، وتستنكره فطرة الطفل السليمة التي لم تشبها شوائب الضلال.
وهنا انتشلت نفسي من الصور الخيالية المؤلمة، وذهبت بخيالي إلى خطوات مضيئة رسمها على ثرى هذه البقاع الطاهرة أفضل الخلق وخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ويا لها من صور مشرقة برزت أمامي في كل مكان، وظهرت لي من كل زاوية، وأطلت عليَّ من كل شُرْفةٍ ومكان مرتفع.
رأيت يتيماً ينشأ في هذه البقاع نشأة خاصةً، وينهج في حياته نهجاً خاصاً، حتى حينما أراد هو وبعض الرعاة أن ينظروا إلى حفلة ليلية راقصة من حفلات الكفار ألقى عليه ربُّه سِنَةً من النوم تنزيهاً لعينيه المفعمتين بالنقاء ولأذنيه الكريمتين عن النظر أو الاستماع إلى هرطقات قومٍ غافلين.
لقد آواه العليم الخبير، ورباه تربية تؤهله للقيام بأعباء الدعوة العظيمة التي قام بها فيما بعد أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى .
رأيت شاباً جَلْداً صالحاً وَرِعَاً أميناً، يترفَّع عن سفاسف الأمور، ويسمو بنفسه عن أوهام الكفر، ودنايا الأعمال.
رأيتُ نبياً مبارَكًا يتنزل عليه الوحي، ويبدأ مستعيناً بالله رحلة الدعوة والتوجيه والإنذار والبشارة، ويتحمل في سبيل ذلك الأعباء الجسام.
صور تخيلتها، توالت وتراكمت حتى هممت أن أمسكها بيدي.
كل موطئ قدم في مكة يشبه شريحة (الحاسب الآلي) التي تختزن ملايين المعلومات، لا تحتاج إلا إلى ضغطة أصبع على زرٍّ، تتحوَّل بها إلى كمٍّ هائل من المعلومات والصور والأخبار.
ما أجمل أن نجرِّب حينما نزور مكة المكرمة أن نضغط على أزرار أجهزة التأمل والتدبر والاستذكار؛ لنرى ماذا تعرض علينا صفحات مكة المكرمة والبيت الحرام من مواقف وعظات وعِبَر ترفعنا إلى مقامات الذاكرين الشاكرين، وتبعدنا (ساعاتٍ) عن همهمات الغافلين.
إشارة:
أتيتُ وفي القلب من كعبتي
ربيعٌ ومن زَمْزمي مَنْهَلُ