تابع الجميع باهتمام بالغ المحاضرة التي ألقاها صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أمير منطقة مكة المكرمة بقاعة الملك سعود بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة والتي حملت عنوان: (منهج الاعتدال السعودي).. والتي تسلطُ الضوءَ على المنهجِ السعودي الأنموذج فكراً ومنهجاً، ليستفيدَ منه الجميعُ -بعون الله- دولاً ومؤسساتٍ وأفراداً.. وفي ظلِّ واقعٍ ينطقُ بالفتنِ والتطرفِ والغلوِ والتحدياتِ والغزو الفكري، لا علاجَ لها إلا بالإسلامِ ومنهجهُ الوسطي.
- حيث قال سموه: «لاغرو فقد أصبحت جامعتكم ملء السمع والبصر، منبراً مستنيراً يتصدى بالحق للجهل والجهالة، والشكر موصول إلى جمهور الحاضرين الكرام، على تفضلهم بتلبية الدعوة وإثراء اللقاء». وقال سموه: «منذ أكثر من عامين، التقيت بهيئة التدريس والطلبة في جامعة الملك عبدالعزيز، على موضوع: (منهج الاعتدال السعودي)، الذي يعني المواءمة والموازنة بين التمسك بأهداب الدين والقيم الإسلامية من جهة، والاستفادة على الجانب الآخر من المكتسبات الحضارية العالمية، بضوابط تلك القيم، ثم تشرفت باستحداث كرسي بحثي في الجامعة، لتأصيل هذا المنهج -سياسياً، واقتصادياً، وتاريخياً، واجتماعياً، وثقافياً-؛ وتنفيذ برنامج توعوي لنشر ثقافة الاعتدال في المجتمع عامة، وبين فئات الشباب خاصة.
واليوم يُسعدني أن أكون مع هذا الجمع المبارك، لنواصل ونتواصل على ضوء ما أسفر عنه اللقاء السابق، وما تبعه من وقائع لتفعيل الهدف، والمستجدات المحلية والإقليمية والعالمية، التي لا تزال تؤكد سلامة هذا المنهج، ودوره في حماية بلادنا العزيزة، وتحقيق أمنها ورخائها ومنعتها.. وبطبيعة الحال، فإن وقوفي بينكم معاشر العلماء والباحثين، ليس ادعاء مني بالعلم، وإنما ينطلق من شعور المواطن الغيور على وطنه، وإحساس المسؤول عن ثغر من ثغوره.
وأردف قائلاً: «وما أحوج الإنسان المسلم إلى كل رأي سديد وفكر رشيد، يُضيف إلى ما وقر في علمه أو يصوبه، لأن أحداً لا يمكن أن يحتكر الحقيقة وحده، والحكمة ضالة المؤمن، كما جاء في الحديث الشريف.
وقال سموه: «لو أسعفني الوقت، ما وفرت فرصة في طول البلاد وعرضها، إلا واصلت مسعاي في هذه المهمة الجليلة، استشعاراً بأننا جميعاً مسؤولون عن تأصيل (الاعتدال: فكراً، وعلماً، وعملاً، ومنهجاً)، والتصدي لمحاولات اختطاف المجتمع يميناً أو يساراً عن هذا الوسط العدل، الذي جاء به ديننا الإسلامي الحنيف، وقامت عليه الدولة السعودية منذ تأسيسها الأول.
وسلط سمو أمير منطقة مكة المكرمة الضوء على مصطلح (منهج الاعتدال السعودي )، مشيراً إلى أن العنوان يعنيه تماماً، فهو منهج ثابت، وهو اعتدال بمعنى التزام العدل الأقوم، والحق الوسط بين الغلو والتنطع، وبين التفريط والتقصير، وهو التفسير العملي لقوله جل وعلا: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)، حيث فسر الرسول صلى الله عليه وسلم الوسط هنا بالعدل.
ولفت سموه النظر إلى وصف (الاعتدال السعودي) لانفراد المملكة العربية السعودية على الساحة الإسلامية، ببناء دولتها على شرع الله وحده في الكتاب والسنة، مُبيناً أن الإسلام خاتم الرسالات السماوية، قد جاء وسطاً عدلاً بين كل طرفين خارجين عليه, فهو وسط بين الانجراف في المادية، وبين الاستغراق في الروحانية، وهو وسط بين من ألّه الأنبياء، وبين من كذبهم وقتلهم، وبين من يُسيد العقل مطلقاً وحده، ومن يعطلونه تعلقاً بالوهم والخرافة.
وشدّد سمو الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز على أن الإسلام يُنكر الرهبنة، ويستنكر المغالاة حتى في العبادة، كما جاء في رد الرسول صلى الله عليه وسلم على من يصلي فلا ينام، ومن يصوم ولا يفطر، ومن لا يتزوج النساء، حيث قال: (أما أنا فأصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
وحذّر سموه ممن يدعون المجتمع المسلم إلى الجمود والقعود والانسحاب من العصر، فإن هناك فريقاً آخر لا يقل خطراً على هذا المجتمع، يحمل لافتات كسر القيود، والخروج على المألوف، والحرية المطلقة، ويركب موجة الانسلاخ عن قيم الإسلام، ويعتمد نقل النموذج الغربي، دون سبر جوهره وفلسفته، وهذا التيار هو أداة غزوة منظمة من المتربصين بالإسلام والوطن، تشجع هذا الخروج وتروج له، وتبالغ في تكريم أصحابه والدعاية لهم، وبهذه المغريات تستقطَب الفراشات الساعية إلى حتفها نحو شعاع حارق، وهذا الفريق يحذو حذو الدعوة القديمة في الغرب، لفصل الدين عن الدولة، التي صاحبت الثورة الصناعية، وكانت بزعمهم سبباً في النجاح الذي حققه، ومن ثم ينصحوننا أن نأخذ بتجربته حزمة متكاملة، دون النظر إلى خصوصيتنا، ولا شك أن كل هذه الادعاءات كما تعرفون باطلة لأن الإسلام دين ودنيا، لم يقتصر على تنظيم العلاقة بين الإنسان وبين خالقه فحسب، بل نظم أيضاً كل التفاصيل في حياته، وأسس لعلاقة الفرد بالفرد، وعلاقته بالجماعة، على نحو لا يشوبه خلل أو قصور، فلماذا نستورد أفكار الغير، ولدينا معين لا ينضب من الفكر الشامل الراسخ والمعصوم.
وبيّن سموه أن إنكار خصوصية هذه البلاد باطل وعار عن الحقيقة تماماً، فهي بلد الحرمين الشريفين، ومهبط الوحي بآخر الرسالات، وبلسانها العربي نزل آخر الكتب السماوية، ومنها بُعث خاتم الأنبياء والرسل عربياً، وقد شرفنا المولى جل وعلا بجوار بيته العتيق، ومسجد رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وبخدمة ضيوفه من الحجاج والمعتمرين والزوار، لذلك فإن هذه البلاد وإنسانها، على رأس المكلفين بتبليغ الرسالة ونشر الدعوة، وتقديم المثل والقدوة للإسلام مواطناً ودولة، فالخصوصية هنا تشريف وتكليف معاً.
ورأى سمو أمير منطقة مكة المكرمة أنه في خضم الأحداث الراهنة في الوطن العربي، والنتائج الأولية التي تشير إلى التوجه الإسلامي في الكثير من بلدانه ما يؤكد أن الثورات العربية الحالية، تختلف عن الثورات الأوروبية في العصور الوسطى، حيث قامت الثورات هناك ضد الكنيسة، بينما تقوم هنا الآن لصالح المسجد وهذا يحتم تقديم (منهج الاعتدال السعودي) نموذجاً ناجحاً للدولة الإسلامية، المتمسكة بالقيم الإسلامية، والمنفتحة على المكتسبات العلمية والحضارية للعصر، فيما لا يتعارض مع جوهر الإسلام وقيمه.
وأوضح سموه أنه تبرز مسؤولية المملكة قيادة وشعباً في مواصلة نجاح النموذج وتطويره، عبر مشروع الإصلاح والتطوير الذي يقوده خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- في جميع المجالات السياسية، والاقتصادية، والعدلية، والإدارية، والعلمية، والثقافية، وغيرها، ليظل الأنموذج الأمثل، الذي يمكن البناء عليه من قبل الباحثين عن نظام إسلامي معاصر، ولعل هذه هي أهم خصوصيات المملكة العربية السعودية.
ونبه سمو الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أنه ليس في الإسلام ما يدعو إلى التخلف، فهو الدين القائم على جناحي استخلاف الإنسان على الأرض، عبادة الله وحده جل وعلا، والعمل على تطوير الحياة وترقيتها.
وأشار سموه إلى أنه نستطيع أن نقدم التجربة السعودية، تطبيقاً حياً لهذه النظرية الإسلامية، لندلل على أن التخلف لا دخل للدين فيه، وأنه محض صناعة بشرية، فالإسلام ليس دين تخلف وقعود، وإنما هو دافع قوي للتقدم والتطور، وإذا كان من تقصير فليتحمل المقصرون وحدهم وزره، وليجتهدوا لإصلاحه، ولا يجيرون مشكلتهم الذاتية طعناً في الدين. مؤكداً سموه أن العصر الإسلامي المزدهر، قدم أول نظام عولمي إيجابي، وحد البشر في دولة عظمى، ينعم فيها الجميع بالخير والعدل، بينما عولمة اليوم قد تحمل بعض النفع، لكنها لا تخلو من أثر سلبي في بعض تطبيقاتها.. مشيراً إلى أن الأفكار لا تنقل كالأحجار، ولا تُفرض فرضاً خارج مواطنها، دون احترام للقيم والخصوصيات المتباينة، لأن المنتج الفكري لا يخضع للمقاييس نفسها التي تطبق على المنتج المادي.
وأضاف سموه: «إن قيم الغرب التي يتغنى بها هؤلاء من عدل ومساواة وحرية وما إلى ذلك، قد جاء بها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً، فهي ليست اختراعاً غربياً أو شرقياً، لذا فلابدّ من تعليق الجرس، لكلا الفريقين الخارجين عن القيم الوسطية في الإسلام؛ الغالين في الدين، والداعين للانسلاخ عن قيمه، للعودة إلى الطريق القويم، قادة لحركة المجتمع، وسفراء له في العالم، ينافحون عنه ضد الناقمين علينا نعمتي الأمن والرخاء».
وأردف سموه موضحاً لقراء التاريخ بأن عليهم أن يدركوا أن الدولة السعودية، منذ الحركة الإصلاحية التجديدية التي قامت مراحلها الأولى بقيادة الإمام محمد بن سعود، والشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمهما الله -، قد اعتمدت منهج الاعتدال السعودي الذي يدل عليه توصيف الحركة في المصطلح التاريخي، ولم تحد عنه طوال مسيرتها وعلى هذا الأساس، انطلق الملك عبدالعزيز -رحمه الله- بعد التوحيد إلى تنمية البلاد، وتطوير المجتمع البسيط آنذاك، إلى مجتمع عصري متحضر، فبنى الهجر، وحفر الآبار ليساعدهم على الزراعة والتوطن والاستقرار، وأرسل المعلمين والقضاة والدعاة، يعلمونهم القراءة والكتابة وأمور الدين، وبعدها افتتح المدارس لتعليم منتظم، ثم أقام هيكل الإدارة، وأدخل الآلة السيارة والطائرة والقطار والبرقيات والراديو.
وشرح سمو أمير منطقة مكة المكرمة «معارضة أصحاب الفكر المتطرف بدعوى التحريم» أنه ما كان من الملك المؤسس إلا أن نظم حلقات نقاش في طول البلاد لدراسة الاعتراض، أسفرت عن الانتصار لما فعل، ولكن الرافضين شرعوا في وجهه السلاح، فواجههم بالمثل وانتصر عليهم، وفرض التحديث فرضاً، على أساس منهج الاعتدال السعودي، ثم إنه حين رأى في الحرم المكي منابر متعددة، وكلاً يُصلي وراء إمامه حسب مذهبه، وحدها في منبر واحد، وعين شيخاً مصرياً شافعياً إماماً للحرم المكي.
وأوضح سموه أن تاريخ قبل قيام جامعة الدول العربية بسنوات، كان الملك عبدالعزيز قد أسس مجلساً استشارياً ضم نخبة من المفكرين العرب إلى جانب السعوديين، ليتواصل بذلك منهج الاعتدال السعودي، فلا تعصب ولا تشدد، ولا بأس أن نستفيد من كل فكر لا يخالف شريعتنا لكن الفكر الرافض لم يهادن، ولا هادنته الدولة أبداً، ففي عهد الملك سعود -رحمه الله- بدأ فتح المدارس للبنات، رغم اعتراض البعض، الذين هم اليوم أول من يطالب بإلحاح لتعليم بناتهم، ولم يوقف الاعتراض المسيرة؛ فقد تصدى الملك فيصل -رحمه الله- وبقوة لاعتراض الرافضين، وواصل فتح مدارس البنات، وحماية الطالبات من اعتراض طريقهن وتهديدهن، كما أدخل التلفزيون رغم اعتراض البعض أيضاً، وكان المد الشيوعي في أوجه، قد غطى معظم الساحة العربية، وجرت محاولات نقله إلينا، لكن المملكة هي الوحيدة التي صمدت أمام الهجمة، وتمسكت بدينها الحنيف بكل إصرار وعزم وثبات، رغم الحملات الإعلامية الشرسة، التي تصاعدت إلى الحرب المسلحة، وانتصر الملك فيصل على تطرف الداخل والخارج، ومضى إلى حركة تطوير شامل، باستكمال إنشاء المؤسسات الحكومية والاجتماعية وتنظيم البنوك، وتحرير الرق، فيما عرف حينذاك بالنقاط العشر التي طرحها الملك فيصل لتنظيم الحكم.
واستنكر سمو الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز في محاضرته استمرار ظاهرة التطرف في عصر الملك خالد -رحمه الله- بما تسمى حركة جهيمان، التي هددت الطفرة الاقتصادية والتنموية، التي عاشتها المملكة آنذاك، ومرة أخرى ينتصر منهج الاعتدال السعودي، فيقضى على المجموعة التي احتلت الحرم، ومنعت الصلاة فيه لعدة أسابيع وعاودت جذور الفكر الكامنة انطلاقها مجدداً في عهد الملك فهد -رحمه الله- ولكن بتناغم عجيب بين تيارين المتطرفين التكفيريين في الداخل، والمتطرف الإلحادي في الخارج الذي أكد أن التطرف الذي يتزين بعباءة الدين الإسلامي ليس منه في شيء، وإنما هي أطماع سياسية تسعى للاستيلاء على السلطة، تبنتها كل الحركات المبثوثة في الوطن العربي والشرق الأوسط، وأساءت لنا أيما إساءة لدى العالم أجمع.
وكرر سموه انتصار منهج الاعتدال السعودي، بإصرار الملك فهد على الوقوف بحزم في وجه الغزو الخارجي والتيارات المتطرفة الداخلية، واضطر الكثير من قياداتها أن يعلنوا عودتهم إلى الاعتدال وتخليهم عن قناعاتهم السابقة.
ثم جاء عهد الملك عبدالله الزاخر بالخير والتغيير من أجل التطوير، على منهج الاعتدال السعودي، وهو يؤكد هذا المنهج بقوله: إننا نرحب بعولمة التجارة وبعولمة الاستثمار، ولكننا نرفض عولمة الفكر الفاسد، ونرفض عولمة الانحراف الذي يختفي تحت أسماء براقة، وهذا لا يعني الجمود في الحركة فصدورنا وبيوتنا مفتوحة لكل جديد مفيد، ولكنها موصدة في وجه الرياح التي تحاول زعزعة معتقداتنا، وخلخلة مجتمعاتنا.. فمنهجنا يستمد قوته من وسطية الإسلام، التي نتخذ بها موقفاً معتدلاً من القديم والجديد.
ومع ذلك أكد سموه عودة التطرف الداخلي أشد عنفاً تكفيريّاً تفجيريّاً، يجند شبابنا ويلوث عقولهم، ليفجروا أنفسهم بين إخوانهم المسلمين والمقيمين في ذمتنا.. ويهددون المجتمع ويحطمون مكتسباتهم الحضارية ومرة أخرى ينتصر منهج الاعتدال السعودي، وتتفوق المواجهات الأمنية الاستباقية على هؤلاء، ويُفتح باب المناصحة والكفالة للعائدين منهم عن غيهم لأنهم في النهاية أبناء الوطن المغرر بهم.
وأوضح سموه أنه لم يكن مستغرباً مع ثورة الاتصالات والمواصلات وانفتاح العالم على بعضه البعض، أن يظهر لدينا على الجانب الآخر ذلك التيار المتطرف المستورد، المتأثر بثقافة الغرب، كردة فعل للتيار الأول التكفيري، وكلا التيارين لا يفتأ يحاول خطف منهج الاعتدال السعودي.
وحمد سموه الله عزّ وجلّ بأن مكّن المملكة رغم هذه التحديات بأن استطاعت، بعون الله تعالى، ثم بحنكة وعزيمة قادتها، وإرادة شعبها، الانتصار على التطرف في جانبيه، والتغلب على كل التحديات بمنهجها المعتدل، الذي حول تلك التحديات إلى فرص إيجابية، وحضور سياسي قوي، واقتصاد مميز على الساحة الدولية مشيداً بتقدم نظامنا في المملكة بما يفوق كثيراً ما حققته الأنظمة التي ابتعدت عن الدين، وتلك التي جمدت على حالها وتقوقعت في بيات طويل، وأثبتت المملكة أن النظام الإسلامي هو الأكثر صموداً أمام زلزال الاقتصاد العالمي، وغدت المملكة العربية السعودية من أفضل دول العالم تطوراً، لا بسبب البترول كما قد يعتقد البعض، لأن غيرنا لديه البترول والمياه والزراعة وتاريخ سابق في الحضارة، ولكنه لم يرق إلى درجة بلادنا، وحقيقة الأمر أن ما وصلت إليه المملكة، كان نتاج فكر ومنهج وقيم وحنكة القيادة وتجاوب المواطن وجهده.
واستند سموه إلى ما فصله خادم الحرمين الشريفين في هذه المسألة بقوله: نحن لدينا أهم من البترول, ديننا الإسلام، والكعبة المشرفة، فالعرب لم تقم لهم قائمة إلا بالإسلام، وهو ثروتنا الحقيقية.
وقال سمو أمير منطقة مكة المكرمة: إنه في الوقت الذي تتهدد العالم توابع الزلزال الاقتصادي وتهتز حكومات الغرب بسببه، وتضج جنبات وطننا العربي بزلازل الثورات التي تراق فيها الدماء، وتدمر المكتسبات، فإننا ولله الحمد والمنّة ننعم بالأمن والرخاء وبالتحالف الفريد بين المواطن وقيادته التي تبادر دائماً بتلبية حاجاته وتوفير العيش الحر الكريم له ولننظر إلى ما تحقق لنا من تطور حضاري في كل مجالات الحياة حتى انتقلنا بأمان من حال القبائل المتفرقة، إلى بلد متحضر يتربع على قدم المساواة مع أكثر الدول تقدماً في قمة العشرين.
وأثنى سموه في محاضرته بجهاد الآباء والأجداد من أجل ذلك، قائلاً: «نحن اليوم مطالبون بمواصلة مسيرة الخير على ذات النهج وهي أمانة في عنقنا للجيل الحاضر وأجيال المستقبل»، شارحاً سموه «منهج الاعتدال السعودي» وأوجز أهم تطبيقاته، ورؤيته لحمايته.
وقال في السياسة الخارجية التي اتسمت سياسة المملكة منذ أنشأ الملك عبدالعزيز وزارة الخارجية، وحتى يومنا هذا، بالثبات على منهج واحد عنوانه «الاعتدال».. ومن أهم الدلالات على ذلك أن المملكة لا تسمح لأحد بالتدخل في شؤونها الداخلية، وفي المقابل تلتزم بعدم التدخل في الشئون الداخلية للغير واستطاعت قيادة المملكة منذ تأسيسها تجنيب البلاد ويلات الحرب والمغامرات غير المحسوبة، التي أقدم عليها غيرها من دول المنطقة، على حساب مشروعها التنموي، بل وعلى حساب سيادتها الوطنية مشاركة المملكة في تأسيس هيئة الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، وكان لها الدور الريادي في قيام مجلس التعاون الخليجي، وهي عضو في العديد من الهيئات والمنظمات العربية والإقليمية والدولية، وقد توجت مؤخراً عضواً في (نادي دول قمة العشرين) العالمية وتبوأت المملكة موقعاً عالمياً مميزاً، وتؤدي دوراً مهما في نصرة القضايا الإنسانية العادلة، كما أنها بذلت مساعيها للتوسط بين الفرقاء العرب والمسلمين، تكللت غالبيتها بالنجاح، وقد اكتسبت مصداقيتها في محيطها العربي والإسلامي ببقائها على مسافة واحدة من كل أقطاره كونها حجر الزاوية في سوق النفط العالمية.
وأشار سمو الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز إلى أن المملكة انطلقت في سياستها من رفض الاحتكار، ووازنت دائماً بين مصلحة المنتج وحاجة المستهلك وكانت المملكة ولا تزال رائدة الدعوة إلى الحوار والتسامح والسلام، بدأته محلياً بمركز الحوار الوطني، الذي أسهم في نبذ التطرف ومقاومة الإرهاب، ثم تبعته بتنظيم حوار موسع بين علماء الطوائف في البلاد الإسلامية، ومؤخراً تم تأسيس مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات في العاصمة النمساوية، ليؤدي المهمة على النطاق الإنساني كله.
واستطاعت المملكة العربية السعودية منفردة بفضل الله ثم بمنهج الاعتدال، أن تثبت أمام كل التيارات الإلحادية اللا دينية، التي اجتاحت المنطقة العربية، منذ مطلع النصف الثاني من القرن الماضي، ولا تزال تطل برأسها حتى يومنا الحاضر، وظلت المملكة وحدها على الساحة قابضة على الكتاب والسنة، بمنهج الاعتدال فيهما، رغم ما كلفها ذلك من اتهامات باطلة، ونعوت استفزازية، ومؤامرات دنيئة من القاصي والداني منذ نشأتها وإلى يومنا هذا.
ونوّه سمو أمير منطقة مكة المكرمة بالسياسة الداخلية وبتوحيد البلاد، وقال استطاعت قيادة المملكة العربية السعودية، أن تحقق أنجح وحدة عربية في التاريخ الحديث، وأن تحافظ على ديمومتها واستقرارها، من خلال عدة أمور أهمها تحقيق العدل بتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع محاكمها، وإخضاع كل أنظمتها لمقتضى الشرع الحنيف، وأن القضاء يشهد في الوقت الراهن مشروعاً ضخماً يتبناه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- لتطوير أدائه ونشر الأمن بتأمين جميع وسائله وأسبابه للمواطن والمقيم، وللوافدين من ضيوف الرحمن الذين كانوا يعانون شتى أنواع المخاطر قبل قيام الدولة السعودية.
وأضاف سموه: «إن المملكة واجهت التطرف والإرهاب في الداخل والخارج بكل الحزم، انطلاقاً من موقفها الثابت الذي أعلنه صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، في اجتماع لجنة متابعة تنفيذ الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب في تونس عام 2000م، حين قال سموه: (إننا نأتي في طليعة الأمم والشعوب التي تنبذ العنف والإرهاب بكافة أشكاله وأنواعه، وندعو إلى التسامح والإخاء والمحبة، انطلاقاً من مبادئنا الإسلامية التي تحرم ترويع الآمنين وسفك دماء الأبرياء، والتعدي على الحقوق والممتلكات، وانتهاك الأعراض والحريات, ونشر المعرفة بتوفير كافة وسائلها وآلياتها، من خلال افتتاح المدارس والجامعات، وابتعاث ما يزيد عن مائة ألف من أبنائها وبناتها إلى أرقى جامعات العالم لكل التخصصات، في أضخم مشروع تعليمي يشهده وطننا العربي في العصر الحديث).
ونوّه سموه بما شهدته البلاد من تطور مهم في الكم والكيف بميدان الإعلام، والأندية والمؤسسات الثقافية، التي أصبحت منارات تشع بالعلم والمعرفة في كل أرجاء البلاد وتمكين المرأة وتعظيم دورها بوصفها شريكاً فاعلاً في تنمية بلادها، والوصول بها إلى المجالس البلدية ومجلس الشورى، طبقاً للضوابط الشرعية والتوسع في نظام الانتخاب للمجالس البلدية، والأندية الأدبية، والغرف التجارية، وغيرها والتنمية الشاملة والمستدامة من خلال خطط خمسيّه بدأت من العام 1391هـ، ومخططات إقليمية طويلة الأمد أُعدت حديثاً لكل منطقة والتي استهدفت تطوير شتى المرافق والخدمات الأخرى الاقتصادية، والصحية، والاجتماعية وغيرها، في واحدة من التجارب التنموية الاستثنائية العالمية، من حيث حجم الثمرة، وزمن النضج والقطاف.
وبين سموه أنه عليها يقوم مشروع طموح يقفز عبره خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- بالبلاد إلى مصاف العالم المتقدم، في حمى قيم الاعتدال الإسلامي الذي انتهجته البلاد منذ تأسيسها.
وقال سمو أمير منطقة مكة المكرمة فيما يتعلق برؤيته لحماية هذا المنهج: أعتقد بأن كل هذه النجاحات التي حققتها المملكة العربية السعودية (بمنهج الاعتدال السعودي)، والمكانة السامقة التي تبوأتها عالمياً بكل التقدير والاحترام، أهلتها لتكون التجربة الأنموذج المعاصرة لنجاح النظام الإسلامي، كيف لا وهي الدولة الوحيدة في العالم التي ربطت دستورها بالكتاب والسنة، وتخضع كل أنظمتها لتعاليم الإسلام وقيمه ورايتها عبارة التوحيد: (لا إله إلا الله محمد رسول الله).. وفيها قبلة المسلمين الكعبة المشرفة في البيت العتيق، ومسجد رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- في طيبة الطيبة، وهي من أكثر البلاد العربية والإسلامية أمناً واستقراراً، ولديها مكانة اقتصادية جاوزت حدود الدول النامية، وأهلتها لتكون شريكاً مؤثراً عالمياً، كما أن لديها برنامجاً تنمويّاً لا أعتقد أن له الآن مثيلاً في المحيط العربي والإسلامي. وهو ما جعل الهجمة الشرسة تشتد وتستعر، في الوقت الحاضر على المملكة من أعدائها، الذين هم في الواقع أعداء الإسلام، ممثلاً في الدولة الوحيدة التي تطبقه على حقيقته.
واختتم صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز أمير منطقة مكة المكرمة محاضرته قائلاً: (ولهذا فإن كل من يغارون على الإسلام في كل العالم، ويريدون الخير له، ويحرصون على أن يواصل النظام الإسلامي مسيرة نجاحه، وأن يحصّن في مواجهة هذا الهجوم المتعدد الجهات ضده، عليهم أن يوحدوا صفوفهم مع المملكة العربية السعودية، قيادةً وحكومةً وشعباً لنصرة الدين ونظامه.. لا بالدعوات والتمنيات فحسب, بل بالقول والفعل والعمل).
وأضاف: «كما أن هذه اللحظة الحاكمة توجب علينا في جبهتنا الداخلية، مواصلة مسيرتنا صفاً خلف قائد الإصلاح والتطوير في بلادنا، خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وأن نؤازره بكل ما نملك من فكر وجهد وإخلاص وأمانة، وأن نسد الثغرات التي ينفذ منها أعداؤنا لمواصلة حملتهم علينا، كذباً كانت أم حقيقة، إنها فرصتنا جميعاً لنقدم للعالم الوجه الحقيقي الناصع للإسلام، إسلام الإصلاح.. والتطوير.. والبناء؛ إسلام العدل.. والحرية.. والمساواة؛ إسلام القيم الإنسانية الأصيلة؛ إسلام كل العصور.. ونشهد الدنيا بأن القائد.. والمسئول.. والمواطن السعودي.. أهل لهذه المهمة الجليلة.
لتأتي كلمة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية، في افتتاح ندوة السلفية بجامعة الإمام بعدها لتؤكد هذه الثوابت، حيث أكد ولي العهد، أن السعودية ستظل -بإذن الله- متبعة المنهج السلفي القويم، ولن تحيد أو تتنازل عنه، مبيّناً أنه مصدر رفعتها وتقدمها.
وطالب سمو ولي العهد بالوقوف صفاً واحداً لمواجهة الشبهات والأقاويل الباطلة، ودحضها، وبيان حقيقتها.. مشيراً إلى أن مَنْ يثير الشبهات والتهم حول منهج السعودية جاهلٌ، يستوجب بيان الحقيقة له.
(*) باحث في الشئون الأمنية والقضايا الفكرية ومكافحة الإرهاب
hdla.m@hotmail.com