«من الطبيعي القول أن المبادرين إلى تحليل وفهم بيئة الأزمات هم أصحاب اليد العليا في كسب ميزة مضاعفة في امتلاك ناصية القوة. وعلى العكس من ذلك, فإن الأمة التي تتردد أو تتباطأ في فهم تغيرات بيئة الأزمات والحروب, وأساليب ووسائل شنها تجر نفسها إلى هزائم حربية لا محالة».
كانت السياسة ولا زالت هي المحرك الرئيس لكل قوى الدولة بما فيها القوة الحربية, لوجود ترابط وثيق بين الحرب والسياسة، حيث تعد الحرب مجرد استمرار للسياسة بوسيلة أكثر عنفاً. وقد شهدت سنة 2011م عدداً من الأحداث السياسية والحربية المهمة التي تستمد منها ملامح تغير كبير على أساليب فن الحرب. ونلخص تلك الحوادث في عنصرين رئيسين أولها الحملات الحربية الأمريكية والغربية في كل من العراق وأفغانستان, وثانيهما أحداث ما يسمى بالربيع العربي. ويعتقد البعض أن جيلاً جديداً من أجيال فن الحرب آخذ بالتشكل مما ساهم في تحقيق النتائج الراهنة, ويعزى ذلك إلى فشل السياسيين وهزيمة العسكر؛ فلم تعد الحرب محصورة على القوة الصلبة باستخدام الآلة العسكرية بل استخدمت فيها القوة الناعمة بوسائل فاعلة ومتجددة.
ورغم الفارق بين العنصرين أعلاه إلا أن العامل المشترك بينها قوي من حيث إن الحملات الحربية في العراق وأفغانستان تشنها جيوش دول عظمى ذات مقدرة فائقة في قوتها النارية وسيطرتها واستخباراتها واستطلاعها في مواجهة خصوم أضعف. والعنصر الثاني متمثل في حكومات عربية قوية مشهود لها بالإمكانات المتعددة والسيطرة الأمنية في مواجهة مواطنين عزل, تمكنوا من إلحاق هزائم وتغيير واقع سياسي واجتماعي لا يختلف عن غاية الحرب في كثير من الحملات العسكرية. وفي الحالتين واجهت الحكومات صعوبات قوية أو فشلت فشلاً ذريعاً في مرحلة الدبلوماسية ومرحلة المواجهة العسكرية. ورغم توفر عناصر القوة ووسائل القيادة والتحكم والسيطرة في مسرح الأحداث في العراق وأفغانستان حيث الولايات المتحدة وحلفائها, وفي دول الربيع العربي, إلا أن القيادات واجهت تحديات كبرى سياسياً وعسكرياً, بما يؤكد بعداً جديداً لمفهوم «قوة الضعيف».
وقد تمكنت المقاومة في العراق وطالبان في أفغانستان والجماهير في دول الأحداث العربية من تحقيق مكاسب وانتصارات تشير إلى عامل متغير في بيئة شن الحرب وإدارتها. ويعزى هذا العامل المتغير والحاسم إلى بروز جيل جديد من أجيال فن الحرب بحسب قراءة الخبراء للواقع السياسي والاجتماعي الدولي الراهن يشار إليه باسم «الجيل الخامس للحرب». ويعتقد أن القوى الحكومية التي تشن الحملات الحربية اليوم أو تواجه الأزمات الداخلية لم يكن لصناع سياساتها وقادتها العسكريين والأمنيين سابق خبرة بمواجهة تكتيكات وأساليب القتال من النوع الجديد. وإذا استبعدنا الحرب النووية التي لا تدخل في مجال هذا الطرح, فقد كانت الحروب في الماضي تشن عبر أسلوبين معروفين لمخططي الحرب من السياسيين والعسكر. أحد الأسلوبين هو الحرب التقليدية التي تشن عبر مفاهيم «الجيل الثالث للحرب» والآخر هو حرب المقاومة والعصابات التي تشن عبر أساليب «الجيل الرابع للحرب».
وسوف أركز فيما يلي للتعريف «بالجيل الخامس للحرب», عبر الحديث عن تطور فن الحرب وتصنيفها سابقاً في أجيال أربعة. وهذا التصنيف يعد غاية في الأهمية السياسية والحربية حيث لا تستطيع أية دولة أن تحقق الفوز في معاركها وإدارة أزماتها الداخلية الكبرى دون تنظيم قواتها واستعدادها للقتال بحسب مفاهيم قتال واضحة مرتبطة بالبيئة السياسية, ومستجدات فن الحرب. ويصنف خبراء السياسة والحرب مستويات الحرب الراهنة على أنها تندرج تحت أربعة تصنيفات تسمى أجيال الحرب. وهنالك مناقشات كثيرة حالياً حول تشكل سمات مفهوم جديد للحرب ينظر إليه بمثابة جيل جديد تحت مسمى «الجيل الخامس». وكل جيل يمثل نقلة نوعية في أساليب شن الحرب, وتحول واضح في فن الحرب وأساليب إدارتها بما يؤكد أن قوى عسكرية أو أمنية تحارب بأساليب ووسائل جيل سابق لا تستطيع هزيمة قوة تستخدم فن الحرب بأساليب جيل جديد.
ومن الطبيعي القول أن المبادرين إلى تحليل وفهم بيئة الأزمات هم أصحاب اليد العليا في كسب ميزة مضاعفة في امتلاك ناصية القوة. وعلى العكس من ذلك, فإن الأمة التي تتردد أو تتباطأ في فهم تغيرات بيئة الأزمات والحروب وأساليب وسائل شنها, تجر نفسها إلى هزائم حربية لا محالة. ولو استسلمت الحكومات لمعارضي نظريات أجيال الحرب بدء بالأول وانتهاء بالرابع لكانت هزائمها كبيرة ومشهودة. فهنالك من لا يؤمن بالإعداد المبكر والاستعداد للحرب القادمة, تحت مبرر حالة السلم الدائم, وعدم وجود عدو ظاهر للعيان. ولكن وجود منظرين قادرين على قراءة المستقبل السياسي والاجتماعي, وفهم طبيعة التحديات المحتملة, ومعرفة فنون الحرب وما يدخل عليها من متغيرات اجتماعية وسياسية وتقنية, قد ساهموا في كبح جماح قوى معادية عبر استعداد وجاهزية حربية وأمنية.
وهكذا, سوف تكون التحديات الرئيسة التي تواجه القادة على جميع المستويات واسعة جداً للحفاظ على الأمن وحماية المقدرات «ومراكز الثقل» التي قد تشكل أهدافاً مؤثرة في ظل مفاهيم الجيل الخامس للحرب. فمن الأهداف المحتملة ما قد تكون سياسية, أو ثقافية، أو اقتصادية, وليس فقط عسكرية. والمفترض أن تكون لدى المخططين السياسيين والقادة العسكريين قدرة على التركيز لقراءة بيئة ومتغيرات فن الحرب التي تمليها المتغيرات في البيئة والسياسية المحلية والدولية. وليس تحليل التحديات والمخاطر والتنبؤ بالقوى المعادية وخصائصها ومطامعها إلا جزء يسير لمنع المفاجآت السلبية والحد من تشتيت الجهود.
وحتى تستطيع أن تدير عمليات مسلحة ناجحة وتحقق نصراً أو تقلل من خسائر, فإن عليك أن تحلل طبيعة القتال المفترضة في مواجهة أزمات محلية أو خارجية, عبر عوامل عدة لتتمكن من تجهيز القوة المناسبة للمهمة الحربية المحتملة بأكثر من افتراض تمليها البيئة السياسية والتحديات المتوقعة. ومن يقتنع بهذه النظرية فإنه حقاً يدرك كيف تطورت المعارك الحديثة في القرن الحادي والعشرين نتيجة للتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية التي تمت في المجتمعات المعاصرة.
فبعد نشوء الدول الحديثة بما فيها من تنظيمات عسكرية وأمنية كانت الجيوش تخوض حروبها عبر صفوف وأرتال متقابلة ضد جيوش دول معادية لا تختلف عنها في أساليب شن الحرب ووسائلها, وبرز ذلك جلياً في زمن حروب نابليون. وأطلق منظرو الحرب اسم «الجيل الأول» للحرب على تلك الحقبة التي تقاتلت فيها الجيوش في صفوف متقابلة مستخدمة البندقة الفردية في رمايات قريبة ومباشرة وجهاً لوجه.
ونتيجة للثورة الصناعية والتحسينات الكمية والنوعية في تصنيع وإنتاج المعدات الحربية والأسلحة ذات القوة والكثافة النارية تمكنت الجيوش من استخدام الخنادق والتحصينات الميدانية وبعض الرمايات غير المباشرة, وهو ما قفز بفن الحرب بمستوى ونوعية مختلفة مثلت «الجيل الثاني للحرب», مما غير صفحة القتال وبرز ذلك التكتيك في الحروب التي تمت في أوروبا أثناء فترة الحرب العالمية الأولى.
ومع التطور الصناعي الحربي ونشوء قوى عسكرية في المسرح الغربي وخصوصاً أوروبا في نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية الحرب العالمية الثانية ودخول مفاهيم المناورة بالقوات في البر والبحر والجو تغير شكل الحرب بتغير الأسلحة وتطورها بما جعل المنظرون يطلقون اسم «الجيل الثالث» للحرب. ومن الطبيعي أن دخلت عوامل مهمة وكثيرة تدعم المناورة والحرب في العمق ونقل القتال إلى الخطوط الخلفية للعدو أو في مواقع لم يسبق للمخططين أن تنبؤوا بها. وهكذا تمكنت الثورة الصناعية من تغيير شكل الحرب.
ورغم القفزات الهائلة في صناعة الحرب وأدوات القيادة والسيطرة والاتصالات التي تميزت بها الجيوش الحديثة اليوم ومنها الجيوش الأمريكية وجيوش حلف الناتو إلا أن الجيل الثالث حافظ على شكله منذ الحرب العالمية الثانية 1944م, مروراً بعاصفة الصحراء 1991م, وإلى عصرنا الراهن. وبقيت مفاهيم الجيل الثالث يخطط بموجبها للحرب التقليدية وتشن بنفس المعطيات والمفاهيم للمناورة الحديثة في مواجهات ومناورات لمعارك الأرض والجو والبحر بين جيوش الدول المتحاربة.
والعامل المشترك بين أجيال الحرب الثلاثة أنها تشن بين قوى عسكرية لدول معينة في مواجهة جيوش دول أخرى هوياتها معروفة وفكرها معروف. والفرق بين جيل وآخر, هو دخول أسلحة وتقنيات متقدمة وصناعة حربية غيرت شكل الحرب وخططها. فمن مواجهات مباشرة بين جيوش لا يفصل بينها إلا مسافة طلقات البنادق الذاتية, وزخم أرتال الجنود المندفعة نحو الطرف الآخر في صفوف وأرتال من الرجال, إلى خطط ومناورات عن بعد تتجدد مع كل جديد في صناعة الحرب. وكان الأبرز في تطور فن الحرب أن دخلت وسائل الاستطلاع الجوي والمقاتلات الحربية والصواريخ البالستية متوسطة وبعيدة المدى, وكذا الأسلحة البحرية المتطورة, وغيرها من الأسلحة والمقذوفات التي غيرت وجه المعركة. فلم تعد المعارك تأخذ الشكل التقليدي للقتال بالمواجهة في صفوف قريبة ومتقابلة, بقدر ما هو قتال في العمق ومعركة غير منتظمة الشكل, استناداً إلى ما يملكه كل طرف من آلة الحرب الحديثة, وقدرة على التفكير والتخطيط.
ويرى منظرو الحرب, أن حرب العصابات في مواجهة قوات حكومية تندرج تحت مسمى «الجيل الرابع» للحرب نظراً لطبيعتها المختلفة كلياً عن الحروب التقليدية بين الجيوش. وبغض النظر عن كون حرب العصابات تنطلق من أهداف مشروعة وعادلة مثل حروب المقاومة أو أنها حرب لمجموعات إرهابية في مواجهة قوات حكومية, فهي تندرج تحت الجيل الرابع. ويرى الخبراء أن أبرز استخدام للجيل الرابع قد طبق بوضوح من قبل ماوتسي تونغ في زمن الثورة الصينية ما بين 1925م و1927م.
وفي الوقت الذي يتضح ثبات شكل الحرب التقليدية في إطار الجيل الثالث, إلا أن الجيل الرابع يقع في دائرة الجدل بين المنظرين وخبراء فن الحرب؛ لتعدد أشكال حروب العصابات وتكتيكاتها. ومن أبرز سجلات حروب الجيل الرابع قدرة الفيتناميين الشماليين على هزيمة القوات الأمريكية, وهزيمة الاتحاد السوفييتي من قبل المقاومين في أفغانستان؛ وغيرها من صفحات النصر في حرب العصابات بين قوى حكومية وأخرى غير حكومية حول العالم. وتستطيع قوى المقاومة التي تقاتل في إطار الجيل الرابع أن تحتمل الخسائر أكثر من خصمها من القوات الحكومية؛ بالإضافة إلى قدرتها على الاستمرار في المقاومة والحرب لزمن طويل وبمجوعات صغيرة؛ بما يؤكد تميز هذا النوع من فن الحرب لصالح قوى المقاومة في حرب العصابات. وفي الجزء الثاني من هذه المقالة سوف يتضح لنا مفهوم «الجيل الخامس للحرب» وما له من ملامح, وما حولها من اتفاق أو اختلاف, يشير إلى فشل السياسيين وهزيمة العسكر في أزمات راهنة تعرض أحداثها وتفاصيلها وسائل البث المباشر.
* عضو مجلس الشورى
mabosak@yahoo.com