أشرت في نهاية مقال الثلاثاء الماضي إلى أن للعشق في تراثنا العربي قيماً عليا أعلاها على الإطلاق «الموت من نار الوجد التي تضطرم في الفؤاد»، ولكثرة من يموتون عشقاً - على ذمة المصادر التاريخية التي بين يدي - جعل الكتاب في هذا اللون من فن التأليف، يخصصون باباً للموت عشقاً، بل إن ابن داود يقول في هذا الشأن: (.. وأخبار هذا الباب أكثر من أن يتضمنها مثل هذا الكتاب..)، ويقول الأبشيهي صاحب المستطرف في كل فن مستظرف في ختام حديثه عمّن مات عشقاً (..والحكايات في ذلك كثيرة وفي الكتب مشهورة ولولا الإطالة والخوف من الملالة لجمعنا في هذا المعنى أشياء كثيرة، ولكن اقتصرنا على هذه النبذة اليسيرة..)، (قال سعيد بن عقبة الهمداني، لأعرابي: ممن أنت؟، فرد الأعرابي: من قوم إذا عشقوا ماتوا، فقال الهمداني: عذري ورب الكعبة !، وأردف بقوله: ومم ذلك، أي ما سبب موتكم عشقا ؟، فأجاب العذري: في نسائنا صباحه، وفي فتياننا عفة ) ومن القصص التي تحكي نهاية العاشقين في تاريخنا العربي، ما روي عن الأصمعي أنه قال ( بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت:
أيا معشر العشاق بالله خبروا
إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع
فكتبت تحته:
يداري هواه ثم يكتم سره
ويخشع في كل الأمور ويخضع
ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوباً تحته:
فكيف يداري والهوى قائل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطع
فكتبت تحته:
إذا لم يجد صبراً لكتمان سره
فليس له شيء سوى الموت أنفع
ثم عدت في اليوم الثالث فوجدت شاباً ملقى تحت ذلك الحجر ميتاً، فقلت لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقد كتب قبل موته:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا
سلامي على من كان للوصل يمنع
وفي مصارع العشاق قال أحد الرواة: (كنت أطوف بالبيت فرأيت شاباً تحت الميزاب قد أدخل رأسه في كسائه وهو يئن كالمحموم، فسلمت، فرد السلام، ثم قال: من أين؟، قلت من البصرة. قال: أترجع إليها؟، قلت: نعم، قال: إذا دخلت النباج، فاخرج إلى الحي، ثم ناد: يا هلال، يا هلال، تخرج إليك جارية، فتنشدها هذا البيت:
لقد كنت أهوى أن تكون منيتي
بعينيك حتى تنظري ميت الحب
ومات مكانه، فلما دخلت النباج، أتيت الحي، فناديت: يا هلال، يا هلال، فخرجت إليّ جارية لم أرَ أحسن منها، وقالت: ما وراءك؟، قلت: شاب بمكة أنشدني هذا البيت. قالت: وما صنع؟، قلت: مات، فخرت مكانها ميتة).
وماتت لبنى فخرج قيس ومعه جماعة من أهله، فوقف على قبرها وهو يقول:
ماتت لبنى فموتها موتي
هل تنفعن حسرتي على الفوتِ
وسوف أبكي بكاء مكتئبٍ
قضى حياة وجدا على ميتِ
ثم أكب على القبر يبكي حتى أغمي عليه، فرفعه أهله إلى منزله وهو لا يعقل فلم يزل عليلاً لا يفيق ولا يجيب مكلماً ثلاثاً حتى مات ودفن إلى جنبها).
طبعاً.. هذا غيض من فيض، استشهدت به للتدليل على أن الموت كمداً وشوقاً قيمة عليا في قاموس المحبين العرب، وأترك الحكم على هذا السلوك - الذي هو إعلان للنهاية ورحيل عن دنيا الناس - للقارئ الكريم، ولكني شخصياً أشك في كثير من هذه الحكايات التي تمتلئ بها كتب التراث المتخصصة في مثل هذا الفن، وعلى افتراض صحتها فإن هذا يعني أن لدينا إشكالية عاطفية متجذرة في العقلية العربية، ومتى غلبت المشاعر القلبية على المدارك الفكرية صارت السلوكيات ردود أفعال عاجزة عن الفعل المبني على الروية والعقل، عموماً أترك القول الفصل لكم أنتم على ما جاء في ثنايا المقالين السابقين خاصة القيم العليا للعاشقين، وأستبيحكم عذراً على الإطالة في هذا الحديث العارض تعليقاً على لفظه «يعشقون» الواردة في العنوان «وللناس فيما يعشقون مذاهب»، وأعدكم بإذن الله أن يكون الحديث في مقال الخميس عن الموضوع الأساس الذي كان سبباً لكل هذا.. دمتم بخير والسلام.