«رح اشتك!» هي عبارة الساعة في التعاملات اليومية التي يذهب ضحيتها آلاف المواطنين البسطاء الذي لم يتعلموا خبث بعض أصحاب المهن، والخدمات، وخدمات ما بعد الخبث. وهي عبارة يقولها بعض من تعلموا الأساليب الملتوية في الضحك على المواطنين بعقود أو بدون عقود، وهم يعلمون أنهم في مأمن من أي عقوبة.
فبعض أصحاب المهن يبلطون البحر بالوعود المعسولة للمواطن المسكين المحتاج لخدماتهم, والذي يكون عادة موظف ومنزعج جدا من المشاوير، ومتخوف من ضياع الوقت في ملاحقة العمالة، فيتم استدراجه حتى تحين ساعة قبض المؤسسة على المقدم الذي تنظر له معظم المؤسسات على أنه «الميدار» الذي يعّلق به المواطن ويسحّب به حتى ينتهي شغله بعد مماطلات وتسويف إلى أسوأ ما تكون عليه المواصفات، وقد يسمع مرة أو مرتين أن السوق كله كذا.
فبمجرد قبض المقدم تتبخر كل الوعود المعسولة، وكل ما تقدم من وعود وضمانات، ويتحول المواطن من صاحب حق إلى متسول حق عند صاحب المؤسسة. وإذا لم يقبل فيقال له بالحرف الواحد يا أخي لا تزعجنا «رح اشتك!» بلهجة تنطوي على استخفاف واضح بالعدالة. وبعض المؤسسات يكفيها من الزبائن مقدم العقد فقط، خصوصاً أنها تغري الزبائن بأسعار، ومواصفات، ووعود تبدو مقنعة لهم. ولها مناديب متعددين تمنحهم نسب من مقدم العقد الذي يأتون به وليس من العقد. وباختصار عالم الأعمال لدينا يكاد يتطور ليكون بلا ضوابط أو أخلاق.
وبعد ربطه بالمقدم، يفكر المواطن التقدم بالشكوى، ثم يفكر بمسار الشكوى فيعرف أنها طريق طويل قد لا يحصل منه في نهاية الأمر على شيء، وأن صاحب المهنة الذي سبق وجرب جميع أساليب التحوط من الشكوى يستهزئ به وبالجهات الذي سيشتكي عليها. وعندما يتجاذب المواطن الحديث عن هذا الموضوع مع آخرين، يسمع إجابات من قبيل، «يا حليلك احنا انضحك علينا قبلك!» و«الهي مالك قبيل!» و»الدنيا فوضى في فوضى!» والكاتب لا يشك أن المحاكم الشرعية، وكذلك الدوائر الرسمية صاحبة الصلاحية قد تنصف المواطن في النهاية ولكن بعد طريق طويل خسر فيه الكثير من الوقت، والمال، والأعصاب، وقد أيضا لا تنصفه مما قد يضاعف من إحباطه، وهذا ما يجعل معظم أصحاب الحقوق يتنازلون عن حقوقهم لمحترفي الخداع والمماطلة، ويمنون أنفسهم بأخذ حقهم في الآخرة. أما من يرددون عبارة «رح اشتك» فالآجلة بالنسبة لهم هي العاجلة، وهي عالم مؤجل, والأهم هو عالم اليوم الذي ينهبون فيه الناس الذين بقى الكثير منهم بلا سلاح خلا من الدعاء.
فلماذا يتكرر مثل هذا التساهل بالحق عندنا، و لا يتكرر في الدول الأخرى؟ دول ليس لها ما لنا من شرع عادل حنيف؟ أو في دول مشابهة ومجاورة لنا تحكّم الشرع مثلنا؟ ولماذا يحترم حق المواطن، ووقته، ومشاعره هناك، وليس هنا؟ الجواب هو أنه في هذه البلدان لا يضطر المواطن لإجراءات طويلة عريضة لأخذ حقه، فغالبا ما يكون في مراكز الشرطة من يفصل في الوضع في ساعته، وهو عادة موظف لديه تدريب كاف في مجال النظم والقوانين، وهو ينصف المواطن بحكم أنه الطرف الضعيف، ويقول للشركة (الطرف القوي) رح أشتك!، ولو تقدمت الشركة بشكوى على المواطن فعليها هي أن تتقدم بأوراق ثبوتية، ومستندات أخرى حول نشاطها، وأوضاعها، ومن باشر عمل المواطن؟ وكيف؟ ومتى؟ وبشهادة من؟ ولذلك فالشركة تنصف المواطن وقد تتنازل عن حقها هي له حتى لا تدخل في كل هذه المعمعة. أما نحن فندخل المواطن، الذي تنقصه الخبرة، والأدوات القانونية اللازمة في هذه المتاهة. وبعد أن يحصل المواطن على حقه، يمنح حقه العيني فقط، ولا يحصل على أي تعويضات عن الأضرار الجانبية الأخرى التي لحقت به، والتي لا تنص عليها الشريعة صراحة.
وفي تلك الدول أيضا تحفظ الدعوى المقدمة ضد شركة أو مؤسسة في سجلها التجاري بحيث يكون ذلك أحد أدوات مراقبة خدماتها، ونزاهة أدائها، وحين تتراكم الدعاوى، والشكاوى عليها يوقف نشاطها. ولذلك فالشركات تحترم الناس والعملاء وحقوقهم قبل أن يصل الأمر للشكاوى، وهي تخشى العدالة العاجلة وتحرص على عدم دفع المواطن لها. ولكن أحيانا تقام دعاوى ضد مؤسسة لمرات متتابعة وفي كل مرة تودع الشكوى على أنها قضية جديدة لا علاقة لها بما سبقها، وهذا ما يشجعها على التساهل بحقوق المواطنين.
الأمر الآخر هو أن هذه الدول تعرف أن الوقاية خير من العلاج، فتعمد إلى تنظيم المهن والتراخيص بشكل يضمن سلامتها وسلامة المستفيدين منها. ففي أحد الدول المجاورة لنا تحتفظ البلديات بسجلات جميع المقاولين العاملين في الحي، فلا يمارس المقاول نشاطاً في الحي دون إخطار البلدية، ويقوم بذلك هو وليس المستفيد. وللبلدية في الحي الحق في اتخاذ إجراءات فورية لوقف نشاطه ومعاقبته، ولذلك فالمواطن لا يحتاج أن يزعج الجهات القضائية بأمور لا تحتاج فعلا لفتوى فقهية. فالبلديات تستدعي المقاول وتنصف المواطن منه، أو العكس. والبلديات لدينا، ما شاء الله، تراقب جميع أعمال الإنشاء، وتفتش على المخطط، و تطلع على التجاوزات ولكنها لا تسأل عمن يباشر أعمال الإنشاء، وعادة ما تستدعي المواطن وتوقف العمل في منشأته. وهي لا تحتفظ بسجل لمن يدخل الأحياء أو من يخرج منها من المقاولين الوهميين والعمالة السائبة، ويظل السوق سرداح مرداح.
والدولة رعاها الله صرفت مبالغ فلكية على التعليم الفني والمهني، وعلى الدراسات الهندسية المختلفة، مدنية، معمارية... إلخ في الجامعات. ولكنها لا تُلزم القطاع الخاص بتوظيفهم، ولا تتيح لهم مجال عمل مريح مستقل بأنفسهم. ومما يدعو للفضول حقا، أن البعض أقام الدنيا وأقعدها عندما أمر خادم الحرمين الشريفين، أمد الله في عمره، بالسماح للمرأة بالبيع في محلات الملابس النسائية المخصصة لهن، وهم قد يعلمون أو لا يعلمون أننا نمنح النساء سجلات تجارية في مجالات مثل: المقاولات، والميكانيكا، والنجارة، والحدادة وغيرها مع أنها ممنوعة من مخالطة الرجال أو الالتقاء بهم، فماذا سيكون مآل هذه السجلات؟ التستر طبعاً، التستر الذي يجمع الكل على أنه سرطان قطاع الأعمال لدينا. ويكفي أن الأخبار تتناقل عن أن بعض المسؤولين عن الكوارث الكبرى مؤخراً كانوا يعملون بسجلات بأسماء زوجاتهم!!
وقد حكي لي بعض خريجي المعهد المهني بحرقة بالغة، أن مجالات العمل والكسب الحلال ميسّرة لهم، والبلاد فيها خير كثير، ولكن الفلتان في منح التصاريح في مجالات فنية متخصصة للنساء اللائي لا يعرفن شيئاً عنها، أو لم ينقصهم التدريب الكافي من الرجال هي أهم أسباب التستر وسيطرة الأجانب على سوق العمل، وهي أيضا من أهم أسباب المشاكل المحيطة بالتنفيذ السيئ للمشاريع، والغش والكذب، وسرقة المواطنين. والغريب أن المقاولين، حتى الكبار منهم أصبح يعتمد على العمالة السائبة التي تتعلم من الشارع وفي رأس المواطن، وبسجلات لا يعلم أصحابها ما يمارس تحتها؛ ومع أننا ضبطنا كل شيء بالحاسوب إلا مجالات السجلات في مجال المقاولات، وصدقوني أن العالم الخارجي من حولنا لا يفهم كيف نمنع المرأة من مزاولة بعض المهن الملائمة لطبيعتهن، ولكنهم يتفهمون جدا لو لم نمنحها سجلاً تجارياً في مجال مثل: الحدادة أو النجارة، ولو منعناها من مجال التستر على المقاولين الأجانب. فهذا مجال ليس حكر على الرجال نظريا، ولكنه غير معتاد للنساء في بلدان تخالط المرأة الرجال فيها، وتعمل كالرجل تماما فكيف في بلادنا التي تحظر الاختلاط؟ فكثير ممن يعيثون في مشاريعنا فساداً هم من مكفولي نساء لا يخرجن من بيوتهن ولا يعرفن شيئاً عن هذه المهن.
والله الموفق..
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif