راسلني عالمان فاضلان أحدهما في مقام الأب، والآخر في مقام الابن.. كتبا يعتبان عليَّ حول النقد الذي وجهته لبعض أقوال الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية -رحمهما الله تعالى- في الصحافة، وألحَّا على اتِّباع السلف بمعنى أن كل ما قالاه سلفيٌّ.. ثم أرسل لي الأول -حفظه الله- مقالة له فاضلة بالفاكس عن السلفية، وثقل عليَّ تحرير الجواب لهما؛ لأنه يحتاج إلى إفاضة؛ فآثرت تحرير ذلك بتمهُّلٍ موَزَّعاً في هذه الابتسامات.
قال أبو عبدالرحمن: ههنا ضرورات أُقدِّم بها ههنا:
أولها: أن من خيار الصحابة رضي الله عنهم مَن هو تابعي، وهو من أسلم ولم يهاجر قبل الفتح، ومن أسلم بعد الفتح؛ فهؤلاء تابعيون بالنص القطعي على أن السلف هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم كما في سورة التوبة.. وصح أن ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته مردود إلى القرآن والسنة والسيرة العملية للسابقين الأوَّلين، وهم معروفون بأعيانهم واحداً واحداً، محفوظة روايتهم وفتاواهم.. وتابعوهم من الصحابة كان اتِّباعهم في الأكثر بإحسان، والإحسان جمال في الأشكال، وجمال في الفكر والمُعْتقد؛ لزكائه، وجمال في السيرة؛ لاستقامتها، وما عدا الأشكال الجمالية المسموعة أو المرئية فمآل بقية معاني الإحسان إلى الإتقان، وفي القسم الأول معنى الإتقان بإطلاق في جمال الطبيعة؛ لأنه خلق الله، ومعنى الإتقان في الجمال الفني غير المطلق؛ لأنه وَفْق ما منحه اللهُ الفنانَ مِن قدرة.. وهؤلاء رضي الله عنهم عدلوا عن الاختلاف لما بيَّن لهم السلفُ الحقَّ؛ فأمضوا اجتهاد عمر رضي الله عنه في العول، وأنهوا الخلاف.. وأذعنوا للمراد من قوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ (المائدة - 105)، وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ (البقرة 195)، من بيان الصديق رضي الله عنه رأس السلف من الصحابة رضي الله عنهم، وأبيِّ بن كعب رضي الله عنه.
وثانيها: أن مَن بعد الصحابة رضي الله عنهم إلى أن تقوم الساعة يكون فيهم تابعو التابعين، وتابعو السلف؛ لتحرِّيهم مراد الله من المصادر التي أوصى بها ربنا جلَّ جلاله، وليس مضموناً لهم إصابة المراد، ولا سلامة المنهج عن قصدٍ أو غير قصدٍ.. والحيدة قصداً لازمةٌ مَن ملك الاجتهاد في تحرير مقاصد العالِم الذي اختاره إماماً له، واختار رُجْحانه على غيره وهو يعلم أنه لن يكون الحق كلُّه عند عالم بعينه؛ لأنه ادِّعاء للعصمة؛ فبطل أن يكون السلف والقول السلفيُّ محقَّقاً عند جملة أهل الحديث وجملة أئمة الفقه المتبوعين، وبالأَوْلى فخلوص السلفية أبعد من أن تكون عند عالم بعينه من أتباعهم، بل لا يسلم أهل مذهب من بدعة؛ وإنما تأتي الغفلة مِن عُقْدة (الحقُّ مني وإليَّ)؛ فنزعم أن محض الصواب على مذهبنا، وأن غيرنا مخطئ، وأننا السلفيون حقاً.. والإنصاف أننا إذا لم نُجرِّد الحقَّ عند عالمٍ بعينه فنحن أهل الاتباع للسلف بتتبع النصوص الشرعية بعد تحقيقها دلالةً وثبوتاً، وأننا نُقدِّمها على أهوائنا وأعرافنا، وأننا نردُّ التنازع إلى نصوص الشريعة المحقَّقة؛ فهذا اتباع بإحسان في الجملة؛ فإن أخطأنا المراد فنحن معذورون ولنا أجر الاجتهاد؛ فإن خُضْنا في علوم الغيب بأدلة العقل المُرْسَل، وقلنا بما لم يعرفه السلف، ولم نتوقَّف تَوَقُّفَهم ونصمت صمتَهم: فإننا متبعون للسلف بغير إحسان؛ لفساد مسلك الاجتهاد.. ولعالم جليل من علماء الزيدية هو أبو عبدالله محمد بن المرتضى اليماني ابن الوزير [775-840] كتاب نفيس جداً قال فيه: ((العقائد [من باب الأولى] لا يجوز أن يتجدَّد فيها لِلْخَلَفِ ما لم يكن واجباً على السلف(1) بخلاف الفروع)(2).. وقال رحمه الله تعالى: (واعلم أني قد أذكر المبتدعة وأهل السنة كثيراً في كلامي؛ فأما المبتدعة فإنما أعني بهم أهل البدع الكبرى الغلاة مِمَّن كانوا؛ فأما البدع الصغرى فلا تسلم منها طائفة غالباً، وأما أهل السنة فقد أريدُ بهم أهلها على الحقيقة، وقد أريد بهم من تسمى بها وانتسب إليها فتأمل مواقع ذلك(3)؛ فأول ما يُنَبِّه طالبُ الحق والنجاة عليه: أن يعلم أنه لا يصح أن يخفى على أهل الإسلام دينُ رسولهم الذي بُعث إليهم، وأقام بين أظهرهم يُبيِّنه لهم حتى تواترت شرائعه وصفاته.. مع قرب العهد من ابتداء الافتراق واتصال الأخبار وكثرة العلماء والرواة، بل قد تواتر إليهم ولم يخْفَ عليهم ما لا تعلق له بالدين من صورتهفإنهم يعلمون ضرورة أنه لم يكن أعور، ولا أعرج، ولا أسود، ولا فاحشاً، ولا ممارياً، ولا فيلسوفاً، ولا شاعراً، ولا ساحراً، ولا منجماً.. فإن قيل: (فمن أين جاء الاختلاف الشديد؟) فاعلم أن منشأ معظم البدع يرجع إلى أمرين واضح بطلانهما؛ فتأمل ذلك بإنصاف وَشُدَّ عليه يديك، وهذان الأمران الباطلان هما الزيادة في الدين بإثبات ما لم يذكره الله تعالى ورسله عليهم السلام من مهمات الدين الواجبة، والنقص منه بِنَفْيِ بعض ما ذكره الله تعالى ورسله من ذلك بالتأويل الباطل؛ ولهذين الأمرين الباطلين أصلان: عقلي، وسمعي.. أما الأصل الأول (وهو العقلي) فذلك أنه عَرَض للمبتدعة بسبب الخوض فيما لا تدركه العقول من الخفيات التي أعرض عنها السلف نحوٌ مما عرض للبراهمة الذين حكموا بِرَدِّ النبوات من إيجاب أمور سكت الشرع عن بعضها، ونهى عن بعضها، واستقباح أمور ورد الشرع بتحسينها)(4).. ثم قال: (وأما الأصل الثاني (وهو السمعي) فهو اختلافهم في أمرين أحدهما في معرفة المحكم والمتشابه أنفسهما، والتمييز بينهما حتى يَرُدَّ المتشابه إلى المحكم.. وثانيهما اختلافهم هل يعلمون تأويل المتشابه، ثم اختلافهم في تأويله على تسليم أنهم قد عرفوا المتشابه)(5).
وثالثها: أنهما حفظهما الله في إصرارهما عليَّ على أن أعتقد أن كل ما اجتهد فيه الإمام ابن تيمية وابن قيم أو ابن حزم قبلهما رحمهما الله تعالى - ولا سيما في أمور الغيب، وفيما تنفيه المشاهدَةُ - هو مذهب السلف، وعليَّ أن أتمسك به، وأن لا أحذِّر الناس منه: يعنيان بهذا الإصرار أن أتكلَّف ما لا أُطيقه من تحقيق مذهب أهل السلف حقيقةً، وأن أُعَطِّل عقلي الذي ربَّيته مدى عمري على نظريتي المعرفة البشرية والشرعية، وما كنتُ صارفاً وقتي لغير العلم واجبه ومباحه ولَمَمِه، وما كنتُ بليداً، ولستُ أتعرَّض لما لا أعلمه؛ لأنني جاهل فيما أجهله.. وما تعبتُ في العلم به عن يقين أو رجحان في مسألة مُعيَّنة فلا أسلِّم لأذكى الأذكياء ولا أعلم العلماء التنازلَ له حتى أجد برهاناً يقهرني، ولا سيما أن عقلي أكثر حرية من عقل الإمام ابن تيمية رحمه الله قبل آخر أمره في شيخوخته؛ إذْ حصر نفسه في مذهب الحنابلة الذي تكامل على مهلٍ بعد الإمام أحمد، وإذْ أجمل القول بأن أهل الحديث هم السلف.. ولكن ابن تيمية رحمه الله تعالى آخر عمره (وفي هذه المرحلة لم تأتنا كل مصنفاته) خلع رِبقة التقليد فاتَّجه إلى الاجتهاد المطلق، ولستُ وأنا العبد الضعيف أدَّعي ذلك؛ وإنما أدَّعي أنني مجتهد مطلق في المسألة التي حققتها، وإنني ذو جهلٍ مُطْبِق فيما لا أعلمه.. والذي عليكما -حفظكما الله- أن تَرُدَّا نقدي لمن انتقدته بالبراهين لا بإعادة الدعوى، وإلزامي بالمجمل، وليس هناك مُجمل يَتَّصف بالسلف إلا مَن جاء النص الذي ذكرته آنفاً من سورة التوبة على أنهم السلف حَقَّاً، وأنا أحتاط لدين ربي لا لعصمة بعض العلماء.. ويكفي ههنا أن أذكر بعض الشواهد.. منها أنني أُشهد ربي خالقي ومالكي بمقتضى إيماني الراسخ بحقه في الجلال والكمال والتقديس أن مذهب الإمام ابن تيمية فيما ردَّده في المجلد السادس من الفتاوى عن حدوث (الفِعْلِ).. واشهدوا عليَّ أيضاً يا عباد الله: أن هذا القول بدعة شنيعة تجرح العقيدة، ويرفضها الشرع والعقل وكمالُ الرب، ولم يخض فيها السلف؛ فهي معارضة لدين الله بالزيادة على ما سكت عنه السلف.. وهو رحمه الله مجتهد تحرَّى الحق فأخطأه؛ لفساد مسلك الاجتهاد؛ لأنه متمسك بمذاهب تابعين بعد السلف اعتقدوا أن ما وصفه الله بأنه محدث ليس بمخلوق.. وهذه البدعة مبنية على بدع تمس كمال الله جل جلاله وتنزهه.. منها الثنائية بين الذات والصفات - بغض النظر عن بطلان إطلق الذات على الله لغةً وشرعاً - بمقالات محدثة كالقول: بأن هذه الصفة قائمة بذات الله؛ وإنما يقال هذا في حق المخلوق الذي اكتسب مهارة في الهندسة مثلاً؛ فيقال هذه صفة حدثت له بإقدار الله مواهبه المخلوقة؛ فهي قائمة بنفسه.. ومنها أن وَصْف الحادِث بأنه غير مخلوق لا يُعرف في لغة العرب.. ومنها أن نصوص الشرع القطعية، وضرورات العقل التي فطر الله العقل عليها - وهي المقرَّة بصدق الشرع وعصمته - قاضية بأن الله هو الأول لا شيئ قبله، وهو الآخر لا شيئ بعده، وأنه الحي الباقي الدائم الفعَّال لما يريد؛ فالقول بأن فِعْله حادث قول منكر يجرح العقيدة، ويجعل صفات الرب حادثة.. ومنها الغفلة عن التفريق بين الفعل والمفعول؛ ففعل الله غير حادث ولا أَوَّل له؛ وإنما يحدث بفعله مفعوله.. وله جلَّ جلاله فعل لا يحدث عنه خلق؛ فيكون الحدوث للظرف الذي اختاره بعلمه وإرادته كنزوله ومجيئه وغضبه مما يليق بجلاله وعظمته.. ومنها عدم التفريق بين ما هو قضاء من الله وما هو صفته؛ فالصفة التي يتصف بها ربنا ولا أول لها أنه يرضى ويغضب ويتكلم ويرحم، ولكن هل نصف الله بقضائه فنقول: الله الغضب والله الكلام والله الرحمة والله القرآن؟!.. سبحانك يا ربي!!.. ومنها التلاعب بالأصول القطعية؛ فَنُلْجِم الجهمية بالحق؛ إذْ جمعوا بين النقيضين فقالوا: (الله ليس داخل العالم ولا خارجه)؛ فيُلزِمهم أهلُ الحديث ومنهم الإمام ابن تيمية بأنهم يعبدون عَدماً؛ لأنه لا ثالث للنقيضين إلا العدم؛ فأصابوا رحمهم الله وفلجوا؛ فمالنا ننقض أصولنا ونقول: (لا خالق ولا مخلوق)؟.. ومنها أننا نقبل إذا أردنا مِن الاستدلال ما لا نرضاه فيما نثبته أو ننفيه؛ فإذا جاء حاطب ليل يورد عن علي رضي الله عنه أنه قال: (إنه ليس كلام مخلوق) فرحنا به؛ فلو فرضنا صحة ثبوته فهل يكون حجة لمراد مُورِدي الأثر؟.. هل قال علي رضي الله: (إنه ليس كلاماً مخلوقاً)؛ فيكون الوصف للكلام بالنفي.. إن القرآن كلام الله بإجماع وليس كلامَ مخلوق.. ومنها أن السلف لم يقولوا كلمة واحدة في الموضوع، والخبر المروي عن أحد تلاميذ الصحابة، وفيه النقل عن عدد من الصحابة لم يسمِّهم ثبت بالتحقيق أنه كلام سفيان -رحمه الله- لا كلامه بعد أن خاض جملة من التابعين فيما أعرض عنه السلف؛ فمخالفتنا لصمت السلف رضي الله عنه في أمر من الغيب ابتغاءٌ للفتنة في الدين؛ فواجب أن نتوقَّف ولو لم يبق في قناعتنا إلا التحرج من اللفظ؛ لأنجرى في الاستعمال العربي المبين وَصْفُ الكاذب بأنه يخلق كلامه مع يقيننا بالقطعي من سورة سبإ والأحاديث الصحيحة القطعية أن الله يتكلم بصوت مسموع مُشبَّه بجرس السلسلة على صفوان يُصعق له من في السماوات.. اللهم أحييني وأمتني على عقيدة التوقُّف؛ لأنني يا ربي بعد إحساني القصد والجدَّ في الطلب لم أجد برهاناً يقهرني من دينك والعقل الذي فطرته على تصديق دينك إلا التوقُّف.. فهل يقيني بسعة علم الإمام ابن تيمية وحِدَّة ذكائه وورعه وجهاده وكل محاسنه يُلْزمني اتِّباعه في قول عن أمر غيبي لم يخض فيه السلف، ولم يُقِم عليه برهاناً من الشرع.
ومن الأمثلة حفظكما الله: إذا قال الإمام قولاً بخلاف الواقع كنسبته إلى المنطقيين أنهم فسروا الحد باقتناص المعرفة، وأنه لن يعرف طعم التفاحة إلا من ذاقها، وأن الحد لا يُغنيه شيئاً.. بينما المنطقيون أرادوا نقل المتصوَّر عند المرسِل بالحد ليشاركه المتلقي في حصر ما تصوَّره المتلقِّي، وليقر به لمن لا يتصوره بوصفٍ مِمَّا تَصَوَّره.. هل إذا قال ذلك يجب عليَّ التخلِّي عما هو معلوم بالضرورة؟.. سبحان الله!!.
وإذا قال الإمام عن الكليات المجرَّدات من المشاهَدَة المحدَّدة بمفهوم اللغة: لا وجود لهذه الأشياء إلا في الأذهان ولا وجود لها في الأعيان، وهي مجرَّدة من الأعيان: فهل يلزمني التسليم له؟!.. سبحان الله!!.. ومحال بالتجربة من كل فرد أن يجد في ذهنه ما لم يجده في الأعيان إما بالكلية وإما بالأجزاء من محسوسات كثيرة.. غاية ما في الأمر أن ما ركَّبه الخيال من تجسيدات أخذ كلَّ أجزائها من الأعيان المشاهَدة يقال عنه: (إن هذا التركيب غير معلوم الوجود في الأعيان)، ولا يجوز أن يقال: (لا وجود له في الأعيان)؛ لأننا لا نحيط علماً بكل الموجودات.
وإذا قال تلميذه ابن قيم الجوزية رحمهما الله تعالى - وهو مُرَتِّبُ علمِ شيخه - المجاز طاغوت ثالث، ثم استدل بجمل غامضة حلَّلتُ معانيها بعد جهد فإذا هي خارج محل النزاع: هل أسلِّم له ذلك وتجربتي في لغة العرب وآدابهم طويلة جداً، وتجربة الذين أرجع إليهم من الاختصاص والتفرغ لهذا العلم أطول وأطول وأطول.. إلى ما حدَّ له، ثم رأيت أن الحقيقة لا تفي بلغة العرب ونصوص الشرع التي هي بلغة العرب.. إذا كان الأمر هكذا فهل يجوز من أجل علمه وعبادته أن أسلِّم له ما حصر فيه نفسه من التقليد، وأهدم علماً قائماً في خبرتي وخبرة أهل الاختصاص وفي تفسير العلماء الربانيين لنصوص الشريعة، وهل يحق لي التقاعس في بيان الحق؟.. ألا إن هذه الدعوى العريضة المكابرة للواقع تهدم أصولنا.. ألا ترى أننا بقطعي الشرع نعرف الظلم ونعرف أن لله وجهاً ويدين؛ فلا نتجاوز الحقيقة بلا تشبيه.. ثم يأتي النص بالأيادي وأنه يبقى وجه ربنا الكريم؛ فهل لنا سبيل إلى فهم المراد بغير المجاز الذي سأذكره فيما بعد إن شاء الله، وهكذا قال ربنا سبحانه وتعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً [سورة الكهف/ 33]؛ فهل يُفهم الظلم ههنا بغير المعنى المجازي عند العرب الذي ورد به النص الشرعي.. وليعلم الحبيبان - وكفى بالله عليَّ حسيباً - أنني لم أتابع مثل هذه الأخطاء عند ابن حزم وابن تيمية وابن قيم -رحمهم الله تعالى- عن شنآن أو بغض لأهل الخير، ولكنَّ الفتنة بهم مما بُلينا به، فقد كثر اليوم المُتعصِّبون لابن حزم، وأما أقوال ابن تيمية وابن قيم فقد أصبحت في أنفسها عند سواد أهل بلدي براهين لا يَحِلُّ العدولُ عنها؛ فلا حول ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل.. إن السلف الذين لا سلف غيرهم هم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار المعروفون بأعيانهم وأسمائهم إحصاءً وعداً من أهل الرواية والفتوى والسيرة العملية رضي الله عنهم، ويلحق بهم مَن اتبعهم وكان اتباعه بإحسان، وهم معصومون من مخالفة حقائق الإيمان وأحوال الغيب الواردة بنص قطعي، وغير معصومين عن الخطإ في الاجتهاد فيما يسع فيه الاختلاف للأسباب التي ذكرها المؤلفون في أسباب الاختلاف.. ولكن ليس سلفياً ما خرج عما هم عليه من ضرورة الشرع واللغة والعقل كإثبات الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى- (وهو واحد ممن ألَّف في أسباب الاختلاف) صفةالرب سبحانه نطقاً وتعطيلَه من معناه، وقَصْرِه معناه على المرادفة لاسم الرب الكريم (الله)؛ وكان ذلك هروباً من لزوم الوصف بالجارحة، وهروباً من التركيب بسبب اعتقاده أن منطق أرسطو الذي حوَّره في كتابه (التقريب) يُحدِّد له العلم بالمغَيَّب؛ فمن ذلك أنه أثبت أن الله يسمع وأنه سميع، ثم قال: (سميع بلا سمع)؛ وإنما (سميع) بمعنى (الله).
قال أبو عبدالرحمن: هذا ليس دون مذهب الجهمية والمعطلة في الشناعة؛ فالسمع ثابت بقطعيِّ السنة المطهَّرة، وثابت بضرورة اللغة؛ لأن لغة العرب التي نزل بها الشرع تُوجب بالضرورة أن فِعْلَي (سمع) و (أَسْمَعُ) يقتضيان مصدراً هو السمع، ويقتضيان مسموعاً.. وإنكارُ السمع وَجَعْلُه اسماً مجرداً تعطيلٌ شنيع يقتضي أن قول المجادِلة وتحاورها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل إلى الله؛ لأن الاسم المجرَّد الذي لا معنى له إلا أنه مرادف كلمة (الله) مُجَرَّد عن معناه الذي هو السمع.. وقد وافق أبو محمد في هذه الشبهة بعض العلماء - وفيهم مَن هو من علماء الحديث -؛ فهؤلاء الأفاضل لم يكن تحرِّيهم اتباع السلف في هذه المسألة حاصلاً عن إحسان.. وأما الهروب عن إطلاق الجارحة فذلك زيادة على الشرع؛
لأن الشرع لم يذكر الجارحة في حق الله سبحانه وتعالى نفياً ولا إثباتاً؛ فالفرار من إطلاق الجارحة إضافة إلى الشرع الذي لم ينف الجارحة ولم يثبتها، وليس لنا أن نصف الله إلا بما وصف به نفسه مع اعتقاد مطلق الكمال، ولا ننفي عنه إلا ما نفاه عن نفسه مع اعتقاد مطلق التقديس عن النقص؛ وإنما المعتقد في الله جل جلاله أنه على الوحدانية؛ وهذا يعني أنه لا شريك له ولا شبيه، وأنه على الكمال المطلق والتنزيه المطلق.. ثم إن عُقْدَةَ الجارحة جاءت بدلالة القياس الذي أفنى أبو محمد عمره في إبطاله؛ لأنه قاس سمع الله على سمع البشر الذي يكون بجارحة الأُذن.. وأما الفرار من التركيب والتجزئة فذلك داءٌ بُلي به كثير من علماء المسلمين بعضهم عن غير قصد كالإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ فكثيراً ما يذكر الذات (يريد بها النفس)، ويذكر صفة الله بأنها قائمة بذاته.. وهذه تجزئة لا تجوز ولا تحلُّ في حق الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله نفسه جلَّ جلاله هو كل صفاته المقدَّسة الحسنى ما علمنا منها وما لم نعلم، ولم تستجدَّ لله صفة لم تكن له فنقول: (إنها قائمة بنفسه)، بل هو الأول والآخر والظاهر والباطن في نفسه التي هي كل صفاته.. مع أن الإمام ابن تيمية في مواضع أخرى بَيَّن أنه لا وجود لذات (يعني نفساً) بلا صفات؛ فكان عليه أن يلتزم هذا الأصل، ولا يجعل ثنائية بين النفس والصفات.. ولا يحل القول بأن هذه الصفة قائمة بنفس الله؛ بل نفسه بلا ثنائية ولا تجزئة هي كل صفاته ما علمنا منها وما لم نعلم.. والتفريق بين الذات (النفس)، والصفات، وأنها قائمة بالله: ليست هي ولا مفرداتها مما خاض فيه السلف، ولم يرد بها نص.. وإنما يجوز وصف القيام بالله في حق المخلوقات؛ فنقول: العرش والسموات والأرض وكل المخلوقات قيامها بالله سبحانه وتعالى، وليس قيام الله بالعرش بمعنى أن الله محتاج إليه؛ فالقيام ههنا مفردة لغوية يشهد لمعناها مثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً [سورة فاطر/ 41]، ومثل قوله تعالى: فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة إبراهيم/ 8] فالغني جل جلاله لا يحتاج إلى من يقوم به.. والتجزئة والتجسيم إرث فلسفي بغيض ورثه الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله، وليس من الطرق الموصِّلة إلى العلم بالغيب، ولاإلى العلم بِكُنْه الخبر الوصفي عن المغيَّب، وهو قياس على المخلوقات، والله سبحانه لوحدانيته لا يُقاس بشيئ من مخلوقاته.. وهكذا الجسم لم يرد به نص من شرع الله لا إثباتاً ولا نفياً، وإنما ورد النص بعظمة الله وإحاطته بخلقه وقدرته ووحدانيته في صفاته وتدبيره، وأنه فعال لما يريد، وأنه حيثما نُوَلي وجوهنا فثمَّ وجه الله؛ فمن قال: (أردتُ بالجسم هذا المعنى) قيل له: أصبت في المعنى أن الله هو كما وصف نفسه، وأخطأت في إثبات الجسم؛ لأن العليم بنفسه جل جلاله لم يصف نفسه بأنه جسم، ولا خاض السلف في هذا.. ومن نفى الجسم لينفي اتصاف الله بالسمع واليد والوجه قيل له: أخطأت مرتين: أولاهما ذكرك الجسم مع أن الله لم يذكر الجسم في حقه لا نفياً ولا إثباتاً، وأخراهما أنك نفيت ما أثبته الله من العظمة والإحاطة والوجه.. إلخ.
قال أبو عبدالرحمن: ولا أُنكر أن المَجازَين اللغوي والأدبي من لغة العرب، وأنه يُعَبَّر بهما عن الحقائق؛ لأنهما أسلوبان من أساليب البيان والبلاغة، والشرع بلغة العرب، وبعض نصوص الصفات لا ظاهر لها إلا المجاز؛ لبطلان الحمل على الحقيقة كقوله تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [سورة الرحمن/ 27]؛ فالمراد أن الله نفسه سبحانه وتعالى هو الباقي؛ وإنما لإفراد الوجه بالذكر معنى بلاغي عند العرب؛ لأنه أشرف شيئ في المخلوقات.. ومثل ذلك عندما يمتنع بالشرع الحملُ على الحقيقة في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ [سورة يس/ 71]؛ فالأيدي ههنا القوة على مجاز لغة العرب، ومن القوة جنده الذين خلقهم بقدرته وهم يعملون بأمره كالملائكة الكرام عليهم سلام الله وبركاته؛ وإنما امتنع الحمل على المعنى الحقيقي الذي هو جَمْعُ يدٍ؛ لأن النص الشرعي في أكثر من موضع أثبت لله يدين، وجاء وكلتا يديه يمين، وصرف الله تعبير اليهود الفجرة في إفرادهم اليد، فأثبت أن له يدين؛ فقال سبحانه وتعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [سورة المائدة/ 64].
مِن الشعر العاميِّ المليح قول الشاعر الوجداني المجماج راعي الأثلة ــ ومَن نسبها إلى غيره فقد أخطأ-:
حِبِّهْ يِخِجَّ القلبِ ما يوجعْ اُوْجاع
لا شكِّ قلبيْ مِوْدِعِه بيتِ نَمْلَهْ
ومَنْ لم يتدرَّب على بلاغة الفصحاء والعوام يظن أن هذا تناقض؛ فكيف يكون حبُّ ليلاه كالنسيم العليل يُرَوِّح القلبَ ولا يُوجِعه بالآلام، ثم يكون مُخَرِّقاً قلبَ الشاعر بالثقوب كبيت النملة التي هي أصغر ثُقْبٍ؟!.
قال أبو عبدالرحمن: استلهمتُ من النص بيقين أن ليلاه متوسطة الجمال، والجمالُ شهيٌّ في العين والأذن.. ولكنها مليحة، والملاحَة - وإن كان الجمال متوسطاً - ذات جاذبية للروح، ولا حبَّ حقيقيَّ إلا بِجَذب الروح؛ فهي في روحه هو مليحة جَذَّابة، وهي في أعين الآخرين شهية بجمال متوسِّط.. قال الإمام أبو محمد ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى (وحسبك به في العلم بفلسفة الحب): (وقد اختلف الناس في ماهيَّته [يعني الحبَّ]، وقالوا وأطالوا، والذي أذهب إليه أنه: (اتِّصال بين أجزاء النُّفوس المَقْسومة في هذه الخليقة في أصل عُنصرِنا الرفيع) لا على ما حكاه محمد بن داود رحمه الله عن بعض أهل الفلسفة: (الأرواحُ أُكَرٌ مقسومة) لكنْ على سبيل مناسبة قُواها في مقرِّ عالمِها العُلويِّ، ومجاورتها في هيئة تركيبها)(6) .
قال أبو عبدالرحمن: مذهب الإمام محمد بن داوود الظاهري رحمه الله تعالى تكهُّنٌ ميتافيزيقي، ومذهب أبي محمد مبنيٌّ على ما اعتقده - وهو الأصح برجحانٍ من النصوص الشرعية - في تأويل قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [سورة الأعراف/ 172]؛ مع النصوص عن النِّسم، من الخبر عن نفخ الروح ولم يذكر أن خَلْقها استجد؛ مما يدل على تقدُّمِ خلقِ الأرواح على خلق الأجسام، والله سبحانه وتعالى على كل شيئ قدير.. وبَنَى مذهبَه على الحديث الذي سيأتي إن شاء الله (القلوب جنود مجندة)؛ للدلالة على المشاكلة.. ولستُ أتيقَّن هذه الفلسفة نفياً ولا إثباتاً، ولكن الذي جرَّبته في حياتي المليئة بالعواطف أن الملاحة هي سِرُّ الجذب الروحي، وأن الجمال مُتعة للعين والأذن، والمليح قد يكون متوسط الجمال، وهو (المُكَلْفَخْ) عند العوام، وقد سبق لي في مناسبةٍ من هذه الجريدة إيرادُ قول الشاعر العامي:
تَرَى الْمْكَلْفَخْ يِجِي مَمْلُوحْ
والزين مَنْ دَقَّتْ أشباهِهْ
وكم مِن مُكَلْفَخَةٍ عَذَّبت العشاق، والله المستعان (واحْلَى العمر عَدَّيته).. ثم قال الإمام ابن حزم: ((وقد علمنا أن سرَّ التمازُج والتبايُن في المخلوقات إنَّما هو الاتِّصال والانفصال، والشكلُ دأَباً يستدعي شَكْلَهُ، والمِثلُ إلى مِثْله ساكنٌ، وللمُجانَسة عملٌ محسوسُ وتأثيرٌ مُشاهَدٌ.. والتنافرُ في الأضداد، والموافقة في الأنداد، والنزاعُ فيما تشابَه موجودٌ فيما بيننا؛ فكيف بالنَّفْس وعالمُها العالمُ الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهرُ الصَّعَّاد المعتدل، وسِنْخها المهيَّأُ لقبول الاتِّفاقِ والمَيلِ والتَّوقِ والانحرافِ والشهوةِ والنِّفارِ.. كلُّ ذلك معلومٌ بالحضرةِ في أحوال تصرُّف الإنسان فيسكُنُ إليها، والله عزَّ وجلَّ يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا [سورة الأعراف/ 189]؛ فجعل علَّة السُّكون أنَّها منه.. ولو كانَ علَّةَ الحبِّ حُسْنُ الصورةِ الجسديَّة لوجبَ ألا يُسْتَحْسَن الأَنْقَصُ من الصُّور، ونحن نَجِد كثيراً مِمَّن يُؤْثِرُ الأدْنى ويعلَمُ فَضْلَ غيره ولا يجدُ مَحيداً لقلبه عنه، ولو كان للموافقة في الأخلاق لَمَا أحبَّ المرءُ مَن لا يُساعدُه ولا يُوافقُه؛ فَعَلِمْنا أنَّه شيئ في ذاتِ النَّفْسِ))(7).
قال أبو عبدالرحمن: الآن آمنتُ بصحة ما قاله الإمام عن الاتصال والمشاكلة، ومحال أن يعشق الإنسان بهيمةً على سبيل الحب الروحي؛ وإنما ذلك شَبَقٌ جنسي، وما أكثر مظاهر القنوع عند مُحِبِّي الملاحةِ بالجذب الروحي كما عند العذريين والرومانسيين؛ فَيُشْبِع نَهَمهم المحادثةُ والمؤانسة، وأن القمر سميرهما، وتُؤانسهم الطبيعة بجمالها وتتفاعل معهم، ولا تجد للشبق الجنسي وجوداً في مأثورهم؛ فلله دَرُّهم هذا هو الحب النزيه الذي تسلم فيه الجوارح من الفحشاء قبل العقد بخطبة ابن مسعود رضي الله عنه.. وهذا الحب العذري من الَّلمم إذا سلمت الجوارح، ولم يكن الدافع غريزة جنسية.. قال الإمام أبو محمد: (والحبُّ ليس بمنكر في الديانة [يعني عموم الديانة بآدابها وعقيدتها]، ولا بمحظور في الشريعة [يعني أحكام الفقه العملية]؛ إذ القلوب بيد الله عزَّ وجل)(8).. وقال الإمام عن هذا الحب بجاذبية الروح: (حاشا [هذا استثناء من الحب لدوافع دنيوية] محبةَ العشق الصحيح المتمكِّن من النفس فهي التي لا فناءَ لها إلا بالموت؛ وإنك لتجد الإنسان السالي بزعمه، وذا السِّنِّ المتناهية إذا ذكَّرته تذكَّر وارتاح وصَبا [صَدَق الإمام]، واعتاده الطَّرَبُ واهتاجَ له الحنين.. ولا يَعرض في شيئ من هذه الأجناس المذكورة - من شُغل البالِ، والخَبَل، والوسواس، وتبدُّل الغرائز المركَّبة، واستحالة السجايا المطبوعة، والنُّحول، والزَّفير، وسائر دلائل الشَّجا -، ما يعرض في العشق(9)؛ فصحَّ بذلك أنه استحسان روحانيٌّ، وامتزاجٌ نفسانيٌّ.. فإن قال قائل: (لو كان هذا كذلك لكانت المحبَّة بينهما مُستوية؛ إِذ الجزءان مشتركان في الاتِّصال، وحظُّهما منه واحدٌ): فالجواب عن ذلك أن نقول: هذه لعمري معارَضةٌ صحيحةٌ، ولكنَّ نفسَ الذي لا يُحبُّ من يُحبُّه مُكْتَنَفَةُ الجهاتِ ببعض الأعراض الساترة، والحُجُب المحيطة بها من الطَّبائع الأرضية؛ فلم تُحِسَّ بالجزء الذي كان مُتَّصلاً بها قبل حلولها حيثُ هي، ولو تخلَّصتْ لاستويا في الاتصال والمحبة.. ونفس المحبِّ متخلِّصةٌ عالِمةٌ بمكان ما كان يُشركها في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدةٌ إليه، باحثةٌ عنه، مُشتهيةٌ لملاقاته، جاذبةٌ له لو أمكنها؛ كالمغنطيس والحديد))(10).
قال أبو عبدالرحمن: ولهذا قال المُجَرِّب الوامق:
ما الحبُّ إلا أن تُحِبَّ
(م) وأن يحبَّكَ مَنْ تُحِبُّهْ
فهذا ألَمٌ من الحُجُبِ الساترة التي ذكرها أبو محمد، ثم قال الإمام: (ومن الدليل على هذا أيضاً أنك لا تجد اثنين يتجاذبان إلا وبينهما مشاكلةٌ واتِّفاق في بعض الصِّفات الطبيعية.. لا بدَّ من هذا وإن قلَّ.. وكلَّما كثرت الأشباه زادتِ المجانسة، وتأكدت المودَّة؛ فانظر هذا تره عِياناً، وقولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤكِّدُه: (الأرواح جنودٌ مُجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكَر منها اختلف [وهو في البخاري عن عائشة رضي الله عنها]، وقولٌ مروِيٌّ عن أحد الصالحين: أرواح المؤمنين تتعارف؛ ولهذا ما اغتمَّ بقراطُ حينَ وُصِفَ له رجلٌ من أهل النُّقصان يُحبُّه؛ فقيل له في ذلك فقال: ما أحبَّني إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه)(11).
والخج عامية، وهي عند العوام حكاية صوت الخجخجة من أي شيئ إذا لامس رطباً خضَّه؛ لأن ذلك صوت كصوت الخج في لهجتهم التي هي طَعْنُ رطبٍ أو يابس أحدث صوت الخجخجة، والنسيم العليل يُقَرْقِعُ بالقلوب اليابسة المتلهِّفة.. ولا يخرقها، ولكنَّ حبَّ ليلى خرَّق قلب المجماج.
قال أبو عبدالرحمن: إن قال ذو يبوسة: (ما هذا الهُيامُ يا ظاهري؟).. قلتُ: إليك عني؛ فبالنسبة لي فالقلوب تَصْدَأُ كما يَصْدَأُ الحديد، وبالنسبة لغيري فأحبُّ أن أجذبهم إلى عزائم العلم وحرائر الفكر بما يُدَغْدِغهم، والله المستعان يعفو عن كثير، وإلى لقاء قريب إن شاء الله، والله المستعان وعليه الاتِّكال.
***
(1) قال أبو عبدالرحمن: لأن العقائد عُرْف على المُغيَّب الذي لا يقع في الدنيا، ولا سبيل للعقل البشري إلى استكناهه كيفيةً وكَمَّاً، وإنما يُوقف عند الوصف الشرعي المعصوم إذا صح دلالةً وثبوتاً.
(2) إيثار الحق على الخلق ص109/ دار الكتب العلمية ببيروت طبعتهم الأولى عام 1403هـ.
(3) قال أبو عبدالرحمن: مثل الجزم بإطلاق كلمة على أمر مُغَّيب لم يخض فيه السلف، فيجب فيه التوقُّف، ولا سيما إن كانت براهين المنفيِّ أقوى من براهين المجزوم به، فلا يستطيع إلا التوقُّف في أمر غيبي.. ومثل دعوى أن الله خلق آدم على صورة الرحمن، فكلمة (على صورة) محال أن تقتضي غير التشبيه، والضمائر لآدم عليه السلام بأصلين لا مُعارض لهما: أولهما أنه المُخْبَرُ عنه، وثانيهما أنه أقرب مذكور.. كما أن رواية (على صورة الرحمن) مخالَفة من غير مَنْ تَرْجُعُ روايتُه للأحاديث الصحيحة، وغاية ما في الأمر أن يكون الراوي أثبت (الرحمن) وَفْق فَهْمِه أو وَهْمِه.
(4) إيثار الحق ص84-85 .
(5) إيثار الحق ص86 .
(6) مختصر طوق الحمامة ص142 - 143 .
(7) المصدر السابق ص143 - 144 .
(8) المصدر السابق ص137 .
(9) قال أبو عبدالرحمن: مَن أراد الاستزداة فليراجع كتابي (كيف يموت العشاق؟؟).
(10) مختصر طوق الحمامة ص145 - 146 .
(11) المصدر السابق ص147 .