كانت الأعراض مراوغة وغامضة لم تكشف عن نفسها بسهولة, آلام متفرِّقة في العظام والمفاصل وضيق في التنفس, كل تلك الأعراض واتفاق عائلته على الشحوب والذبول الذي استوطن جسده ومحياه لم تقلق «ماثيو» -الشاب الفيتنامي الذي سأقف أمام قصته اليوم- بل أعتقد أنه مجرد نتيجة للتعب والإرهاق الذي كان يبذله بالدراسة في كلية الصيدلة في إحدى جامعات كاليفورنيا العريقة, إلا أن نزيف أنفه الحاد لأكثر من ساعة دون توقف كان مؤشراً لمفاجأة من العيار الثقيل, فذهب مباشرا ًإلى أقرب مستشفى علهم يجدون تفسيرات منطقية لذلك التردي الواضح في صحته, وبعد القيام بعدد من تحاليل الدم, تبين وجود هبوط حاد في الصفائح الدموية وخلايا الدم الحمراء والبيضاء, الأمر الذي أقلق الأطباء كثيرا وأطلق العنان لأسئلة كبيرة عن حالته الصحية الحرجة.. فأمروا بعزله بغرفة منفصلة, وطلبوا من الزوار لبس القفازات والأقنعة حتى يأتوا بالخبر اليقين.
وبعد ساعات مرت ثقيلة مرة على ماثيو الذي أصابه الرعب من تسارع الأحداث وتضخم الأسئلة, جاء الطبيب ومعه نتيجة بعض التحاليل التي في جوفها مصير حياته القادمة « أظن أنك مصاب باللوكيميا - أي سرطان خلايا الدم الحمراء» وسنقوم ببعض التحاليل للتأكد» قالها الطبيب ورحل وسط حالة هلع أصابت العائلة ومزيج من الصدمة والإنكار الذي حل «بماثيو».
منذ تلك اللحظة ستتغير حياته إلى الأبد.. منذ ذلك الإعلان, ضيف جديد سيشارك ماثيو حياته, ينام ويفيق معه يضحك ويبكي معه لا يهمه إن كنت تكرهه وتتمنى الخلاص منه، إنه قدر ويجب أن تستقبله بكثير من الصبر والحكمة.
تغيرت حياة ماثيو بكل ما تحمل كلمة «التغيير» من معنى, صار مجبراًعلى التأقلم مع نظام حياة جديد زاخر بالمواعيد الطبية ومثقل بالألم والقلق وإلحاح الأسئلة وضغط الانتظار, لكنه رغم آلام المرض المبرحة والتي تجبره على ابتلاع الحبوب المسكنة كل ثلاثة إلى أربع ساعات, تقبل هذا التغيير بصدر رحب, وقرر خوض هذا الصراع مع المرض بعزيمة وصبر, وفعلا بدأت حالته الصحية بالتحسن بعد عدة جلسات من العلاج الكيماوي, حتى بُشّر بعد أشهر بأن الخلايا السرطانية قد اختفت تماما, وفرحا ًبهذا الخبر البهيج والانتصار العظيم الذي حققه, قرر أن يشارك بماراثون المائة ميل للدراجات الهوائية احتفالاً بصحته التي عادت إليه ورغبة منه باستشعار عظمتها مرة أخرى، وبعد ثلاثة أيام فقط من قطعه خط نهاية السباق وخلال موعد كشف روتيني, أخبره الأطباء أن «اللوكيميا» كشّرت عن أنيابها مرة أخرى, وعادت أكثر شراسة وعدوانية, وكأنها تسقيه لذة وروعة الصحة بعد الظمأ والسقم ثم تسرقها منه بدم بارد ولامبالاة.
زراعة نخاع العظم كانت الخيار الأخير له لإكمال مشوار الحياة لكن أصوله الفيتنامية كانت عائقاً صعبا للحصول على متبرع يطابق نخاعه.
وبعد مشوار بحث طويل ومرور أشهر دون أن يتكرم عليه القدر بالمتبرع المناسب, أسس أصدقاؤه جمعية باسمه للبحث عن الشخص المطلوب, وفعلا تم إيجاد نخاع دم مطابق لنخاعه بل وتنبأ الأطباء بأن الزراعة ستكون مثالية, وحين تم الاتفاق مع الفتاة ذات الأصول نفسها على موعد لاحق بعد ثلاثة أشهر مرت عجافا ًعلى ماثيو كاد أن يفقد فيها حياته, انسحبت الفتاة وأعلنت عدم رغبتها بالتبرع.
يقول ماثيو: «شعرت حينها أني أعيش كابوساً حقيقياً أريد أن أفيق منه بشدة», ولكنه للأسف لم يكن كابوساً بل واقعا مريرا لكنه رفض أن ييأس, بل بدأ بالبحث ليس فقط في أمريكا بل في بعض الدول الآسيوية, ومن حسن حظه أنه وجد متبرعة أخرى لم تتجاوز الأربعة وعشرين عاماً قررت أن تهديه جزءاً من جسدها ليحيا جسده, لم تكن بمثالية تطابق الأولى لكنها مناسبة كذلك, وبعد إكمال الإجراءات اللازمة, تمت الزراعة بنجاح بتاريخ يحتفل به ماثيو كيوم ميلاد جديد, حيث أعطته هذه الزراعة صحة أفضل, وجسداً أقوى وسنين جميلة أخرى يقضيها بتقدير أكبر للحياة.
الجدير بالذكر أن ماثيو تزوج من الفتاة التي أحبها, وتمكن على حد وصفه من شراء الأشياء التي لطالما تمناها, وحصل على توقيع نجومه المفضلين بكرة السلة, كما أنه عاد لاستئناف حياته الدراسية وقضاء وقت أكبر مع العائلة والأصدقاء والكتب التي يحب.
في الخاتمة أريد أن أشارككم صدفة اكتشفتها أثناء قراءتي لقصة ماثيو في إحدى الصحف يقشعر له جلدي وتسابقت لها العبرات وهي أن «ماثيو» كان يعالج في ذات المستشفى بل في ذات الطابق وعلى بعد خطوات من غرفة والدي عصام الخميس -رحمه الله رحمة واسعة- وكأن القدر لا يريدني أن أسمع قصته إلا بعد مرور عام تقريبا على غياب لوالدي.
Twitter:@lubnaalkhamis