كثيرةٌ هي هواجسُ هذا العصر، طموحات وإنجازات وعثرات وكبوات، أغلبها من صنعنا نحن البشر، بقصد حيناً وبدونه أحياناً، ويسكن الخاطرَ العديدُ من تلك الهواجس، ينافس بعضُها بعضاً في تسلّق جدار وعي الآدمي منّا أثناء صَحْوه وقبل منامه، حتى ليكادُ يَسمعُ لبعضها أحياناً شهيقاً وزفيراً يتسلّل إلى (استراحة) الخَاطر مْعتمِراً أكثرَ من سؤال، ليشْغلَك ويقْلقَك في آنٍ بْحثاً عن ردٍ آمنٍ وأمين ترسُو في مينَائِه قواربُ نفسِك المضطربة، فتَخلدَ إلى شيء من راحة، وتَتَحرَّر أنت من (شياطين) القلقِ والأرقِ!
***
- وفي حديث اليوم، استعرضُ باختصار نموذَجاً من تلك الهواجس الحيّةِ التي تغزو شهُبُها مجَاهلَ النفسِ بين الحين والآخر .. فتُشْقيكَ بحْثاً عن معالجةٍ لها، وتشْْقَى أنت بمَلازمتِها لك، لا تقنعُ بحُجّةٍ ولا ترَضَى بدليل!
- هناك تساؤلٌ ملحُّ حول الفرق بين إنسان (ما قبل النفط) ونظيره المعاصر الذي أشْقاه (نعيمُ) النفط فتنةً وافْتِتَاناً، وأعلق على ذلك بإيجاز شديد:
- محطتان من الزمن تفْصلُهما مساحةٌ عريضةً من عشْوائيةِ الزمانِ والمكانِ والحَدَث، بسرّائِه وضرّائِه. تغيرت خلالهما طباعُ الناس وتنوعت أساليبُ عيشهم وتعدْدتْ: مأْكلاً ومشْرباً ومكْسىً ومرْكَباً! تطاولوا في البنيان حتى عانقوُا السحاب، ويُوشكُ بعضُهم أن يتَجاوزَه، وتحوّلت خيَامُ الأمسِ إلى قلاعٍ من حديدٍ وزجاجٍ، يفترشُ أهلُها الرُّخامَ ويتَدثّروُن بريشِ النعام!
***
- ماذا كانت نتيجة هذا التحول؟
- تناقضٌ مريعٌ بحجم المسافة بين ذرّاتِ الخُبْزِ الجاف وحبات الكافيار! نشأت في ظلالها ظواهرُ سلوكيةٌ عجيبة، منها ما يُدرك بالعين المجردة من هوى النفس ومتاع الذات! ومنها ما يُسْتشَفُّ بـ(أشعة) الإحساس واللب البصير!
***
- ثم طفَتْ على السطح شَرائحُ من البشر بتوجُّهاتٍ متِباينة:
- المحافظُون منهم على التراث يعضُّون عليه بالنَّواجِذ إصْراراً ووَفَاءً لهويةِ الأمس وكرامةِ الأجْداد.
- والمقلَّدون للجديد يتّبعُونَه (حذْوَ القذة بالقذة) باسم المعاصَرِة اقتناعاً حينا، ومحاكاةً لـ(الآخر) معظم الأحيان!
- وبين أولئك.. وهؤلاء، قومٌ آخرون يقُولوُن ما لا يَرْون، ويفْعلُون ما لا يظنُّون، ويتَظَاهرُون بما لا يمْلكُون، ثم يتسَابقُون إلى إدْراكِ لذّاتِ الحسَّ وبعضُهم لها كارهُون، لكنَّهم يُقْبلوُن عليها خَشيةَ أن يزْدريَهم الموُسرون من معارفهم أو أقاربهم أو الجيران فيقْذِفُوهم بالفَقْر و(القراوة) والتخلَف!
- وقد تُملي لأحَدِهم عقدةُ (الرَّياء الاجتماعي) فيرهن كرامتَه وماءَ وجهه، وجزءاً مِمّا يملكُ لقاءَ حفنةٍ من دراهمَ يبدَّدُها هنا أو هناك!
***
- ويقَفُ على مسافة بعيدة ممّن سلف ذكرهم قومَُ آخروُن لهم أبصَارُ تعافُ وأفئدةٌ تَعِفُّ، ومعَادنُ تأْنفُ أن تكونَ تابعةً أو متبوعةً، وهم في أغْلبِ أحْوالهِم (مستورو الحال) بميزان عصرهم، حتى ليكادُ العابرُ من الناس يحسُبهم من فرط عفَّتِهم مُوسِرين!
***
- وبعد، هل نلومُ النفطَ لما حدث أم نلومُ أنفسنا، أم (الإرثَ) الذي نبتْنَا فيه بادئَ الأمر، فقْراً وجَهْلاً وتَخلُّفاً! وأنهي هذا الحديث بعتب على من يلوم النفط وهو أولى منه باللوم وأدرى! ومن يُسقِطُ عليه أخطاءه وخطاياه، وعثراتِه وعبراتِه، وينسى أن النفط ليس سوى وسيلة سخّرها لنا خالق البرية تبارك وتعالى لنَنْعَم بخَراجِه لا أن ننْسبَ شقاءَنا إليه!