لا يأمن العجز والتقصير مادحه
ولا يخاف على الإطناب تكذيباً
ودت بقاع الله لو جعلت
قبراً له فحباها جِسْمُهُ طيباً
فبينما كنت أفتش بعض مقتنياتي ومدخراتي الحبيبة إلى قلبي داخل غرفة مكتبتي الخاصة إذا بي أعثر على نسخة من العدد 231 الاثنين 13 شوال عام 1389هـ من صحيفة (الدعوة) التي كانت تصدر أسبوعياً مؤقتاً - آنذاك - والذي يحمل في ثناياه نبأ وفاة ورحيل والدنا وشيخنا العلامة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، ويضم داخله عدداً من كلمات التأبين وقصائد الرثاء المؤثرة من بعض تلامذته ومحبيه، وكان لزاماً علي أن أنوه بأفضاله وعنايته بي أثناء التلقي عليه مبادئ من العلم عامي 69-1370هـ فقد أهاجت بي الذكريات، وطوح بي الخيال إلى تذكر هاتيك المجالس، مجالس الذكر وتلقي العلم على يديه، وعلى أخيه فضيلة الشيخ عبد اللطيف في جهتي مسجد الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الغربية لدى الشيخ عبد اللطيف، والشرقية لدى سماحة الشيخ محمد - رحمهما الله - وبعد طلوع الشمس ينتقل معظم الطلاب إلى منزل الشيخ محمد لتلقي المزيد من العلوم، مثل كتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية والحديث، وسماع بعض كتب المطولات مع التعليق على ما تدعو الحاجة إلى إيضاحه للطلبة والمستمعين..، وبقية مواد العلوم الأخرى موزعة على الأوقات وأفواج الطلبة حسب مستوى كل فوج إلى أذان العشاء، والمسجد كخلية نحل من طلاب العلم على مختلف أعمارهم وقدراتهم..، ولقد منحه المولى قوة جلد وصبر لا يتطرق إليه ملل ولا كلل، وعمق في علمه الواسع في جميع المواد العلمية، يقل من يماثله في حنكته وفهمه وقوة ذاكرته، ويحسن بي أن أذكر هذا البيت وكأنه يعنيه للبرهان القيراطي من قصيدة رثى فيها جمال الدين بن عبد الرحيم شيخ الشافعية حيث يقول:
فأعظم بحبر كان للعلم ساعياً
بعزم صحيح ليس بالمتكاسل
فوقته - رحمه الله - كله مستوفى إلا ما يتخلله من أوقات خاصة ووجيزة يرتاح فيها قليلاً، ولقد بارك الله في عمره وفي وقته، وقد تخرج على يديه خلق كثير جداً وكوكبة خيرة أصبحوا من كبار العلماء وبحوراً في العلم والإفتاء أمثال: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، والشيخ عبد الرحمن بن قاسم - صاحب المؤلفات وجامع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ عبد الله بن محمد القرعاوي، والشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد، وأخويه الشيخين عبد اللطيف وعبد الملك بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ عبد العزيز بن محمد آل الشيخ والد معالي وزير الشؤون الإسلامية الشيخ صالح، والشيخ ابراهيم ابن محمد رئيس الدعوة والإرشاد والبحوث وهما أبناؤه وغير هؤلاء كثير من الأجيال المتتابعة يتعذر عدهم:
فرب ضرير قاد جيلاً إلى العلا
وقائده في السير عود من الشجر
- تغمد الله الجميع بواسع رحمته - ومن آثاره الأخرى الجليلة تبنيه تأسيس المعاهد العلمية وكليتي الشريعة واللغة العربية بتأييد من جلالة الملك عبد العزيز وجلالة الملك سعود ومعاضدة فضيلة الشيخ عبد اللطيف له - رحمهم الله - وعوداً على ذكر بداية شطر من سيرته وحياته، ولقد ولد العلامة الكبير سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ في مدينة الرياض في 17 من شهر محرم عام 1311هـ فتربى في بيت علم وفضل محباً للعلم طموحاً في اقتناصه من مظانه وأفواه العلماء، ومن بطون الكتب النافعة، وكان والده العلامة الشيخ إبراهيم قاضي مدينة الرياض من أبرز علماء نجد ومشاهيرهم، فاحتذى الشيخ محمد حذو أبيه..، وعند بلوغه السابعة من عمره ألحقه في كتّاب المقري عبد الرحمن بن مفيريج فأعجب بسرعة فهمه وحفظه، فاهتم به حتى حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب، بعد ذلك شرع في طلب العلم فأخذ بالقراءة على أبيه، وعلى عمه علامة نجد في زمنه الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وقراءته الأولى في التوحيد، وأصول العقيدة حفظ وتفهم، ثم قرأ مختصرات كتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، ومختصرات كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كالواسطية، والحموية، وكذلك عني بمختصرات النحو والفرائض كالأجرومية والرحبية، وقد كف بصره وهو في الرابعة عشرة أو السادسة عشرة من عمره فصبر واحتسب وصمم على النهل من موارد العلوم العذبة، فقرأ على علماء الرياض زيادة على القراءة على عمه وأبيه، وعلى الشيخ سعد بن عتيق، والشيخ حمد بن فارس وعلى الشيخ عبد الله بن جلعود، فأدرك هذه العلوم إدراكاً جيداً وغزيراً أهله على أن يكون مفتياً عاماً للديار السعودية، مع ترؤسه لعدد من الدوائر والمصالح الحكومية فهو نهر عذب عميق اغترف منه وارتوى خلق - كثير، ولله در الشاعر:
سعدت أعين رأتك وقرت
والعيون التي رأت من رآكا
ولا أنسى أفضاله علي - رحمه الله - حيث كان يدعوني للإفطار معه ومع أبنائه في شهر رمضان عامي 69- 1370هـ أنا والشيخ علي الضالع كل ذلك تقديرا منه وحبا لوالدنا الشيخ العالم الجليل عبدالرحمن بن محمد الخريف الذي هو بمنزلة الزميل له، فهو كثير السؤال عنه، و يقول كان الإمام عبدالرحمن الفيصل والد جلالة الملك عبدالعزيز يدعوه في بعض الأحيان ليسمعه تلاوة القرآن الكريم بصوته الجميل أثناء مجيئه من حريملاء ليلتقي ببعض العلماء والمشايخ، فأعماله الجليلة متعددة لا حصر لها فموته وغيابه أحدث فجوة واسعة يتعذر ردمها وملؤها بعده في الميدان العلمي والفقهي، كما أنه سياسي محنك بعيد النظر يستأنس بآرائه وأفكاره النيرة، ومن بعض الأمثلة على ذلك ما روي عنه في اختياره حجز مساحات شاسعة من الأرض بحي النسيم شرقي مدينة الرياض ليكون موقعاً لمقابر ومضاجع الراحلين التي تبعد عن قلب المدينة - آنذاك - خمسين كيلو مترا، الذي الآن أصبح داخل العمران والأحياء السكنية - فجزاه المولى وافر الأجر -، ووفق ولاة أمر هذا الوطن لما فيه الخير والبركة، وهذا يدل دلالة واضحة أن الله قد وهبه نفاذ البصيرة رغم فقد بصره، ولقد أجاد الأستاذ - علي الجندي في مخاطبة بصير لا يبصر أثناء قصيدة جميلة المعاني حيث يقول:
عزاءك إن الله أعطاك فطنة
وأعطاك فكراً لم يشُب صفوه كدر
وأعطاك نوراً في فؤادك نبعه
يريك وراء الغيب ما سطر القدر
وكان لي معه بعض الذكريات الخفيفة اللطيفة القصيرة..، فلما أثقله المرض في آخر حياته بذل الأطباء ما في وسعهم لكبحه ولكن الحيل أعيتهم، فانتقل إلى دار النعيم بعد ظهر يوم الأربعاء 24-9-1389هـ وصلى عليه بعد صلاة العصر في جامع الرياض الكبير جموع غفيرة وزحام شديد حيث خرجت تلك الجموع لتشييع فقيد الأمة وكان على رأس المشيعين جلالة الملك فيصل وفيهم الأمراء والعلماء والوزراء والأعيان، ودفن في مقبرة الرياض المسماة (العود) داعين له بالمغفرة وقد حضر العزاء في بيت الفقيد صاحب الجلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز - رحمه الله - وأبدى أسفه وحزنه الشديد على رحيله، وأثنى عليه وذكر خسارة البلاد بوفاته وواسى أفراد أسرته والحاضرين من العلماء..، وهذه الكلمة الوجيزة لا تفي بعد الكثير من مآثر ومحاسن شيخنا ووالدنا المتصف بالرزانة والهيبة وسعة الأفق، وسيظل ذكره خالداً على مر الدهور والأعصر، وإنما جاءت خاطرة في نفسي تعبيراً لما أكنه لسماحته من حب واحترام - تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته -:
إن العظيم وإن توسد في الثرى
يبقى على مر الدهور مهيبا
عبد العزيز بن عبدالرحمن الخريف
أحد تلامذة الشيخ
حريملاء فاكس 015260802