عاد الجدل الفكري حول علاقة الدين بالسياسة بعد اندلاع ثورات الربيع العربي، وارتباط الفكر الإسلامي تحديداً في بلورة واقع تلك الثورات، سواءً على مستوى البرامج الانتخابية، التي تعلنها الأحزاب السياسية، أو على صعيد المشاريع الحضارية، التي تطرحها التيارات الفكرية العريضة المعبرة عن جماهير الأمة. خصوصا فكرة (تطبيق الشريعة)، أو شعار (الإسلام هو الحل). ما أوجد حالة من الثنائية الفكرية على الساحة الإعلامية العربية بين علماء ومفكرين ودعاة ومثقفين خاضوا في تلك الفكرة، أو ناقشوا ذلك الشعار.
تلك الثنائية الفكرية تتمثل في طرح إسلامي المعتقد يقول بـ(واقعية) فكرة تطبيق الشريعة وتعزيز القيم الدينية، من خلال فضيلة التدرج التي تعتبر خاصية في الشرع الإسلامي، مستشهداً بالنموذج التركي، مقابل طرح ليبرالي التوجه يقول بـ(مثالية) تطبيق هذه الفكرة. غير أن الطرح الليبرالي يستند إلى حقائق الواقع المعاش وشواهد التاريخ الإسلامي، فمن حيث الواقع لا توجد دولة نجحت في تطبيق الشريعة كحال دولة الرسول صلى الله عليه وسلم أو على الأقل محاكاتها، وهذا تجاهل واضح لتجربة المملكة الحالية، بل إن الطرح الليبرالي دائماً ما ُيكرر تجربة حركة الطالبان الأفغانية (السنية) ويصفها بـ(الظلامية)، وتجربة جمهورية إيران (الشيعية) وينعتها بـ(الخرافية)! بغض النظر عن التباين المذهبي.
أما على مستوى التاريخ الإسلامي فيرى الطرح الليبرالي أن استعراض 14 قرناً يثبت استحالة (تطبيق الشريعة) اليوم، وأنها في حقيقتها فكرة مثالية، لأن النموذج الحقيقي والاستشهاد التاريخي محصوراً في (30 سنة) تقريباً وهي فترة الخلافة الراشدة، أي قرابة ربع قرن من أصل (14 قرناً)، بل يرى الليبرالي أن التحليل المنطقي لفترة هذه الخلافة يقول إن تطبيق الشريعة كان فقط في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه (13 - 23 هـ)، كون خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه اسُتهلكت بحروب المرتدين وبداية فتح فارس والروم، وخلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه كانت على فترتين، الأولى فتوحات والأخرى فتنة كبرى، أما خلافة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقد عصفت بها الحرب السياسية بين الأطراف المختلفة حول طريقة القصاص من قتلة عثمان. وبهذا ينتهي التقرير الليبرالي إلى أن تطبيق الشريعة خلال مسيرة الأمة لم يتجاوز (عشر سنوات) هي المدى الزمني لخلافة الفاروق رضي الله عنه القريبة من العهد النبوي، وبالتالي فإن الدعوة إلى تطبيق الشريعة في واقعنا المعاصر هي دعوة لفكرة (مثالية) يستحيل تطبيقها، ما يعني استبعادها ومن ثم التعامل بواقعية من خلال استبدالها بـ(قوانين وضعية) في مجالات الحياة الرئيسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما ينضوي تحتها أو يتفرع عنها من ميادين وحقول في التنمية الوطنية والحياة اليومية والمعاملات الإنسانية والعلاقات الدولية.
القول بـ(مثالية) تطبيق الشريعة أو استحالة تطبيقها في واقعنا المعاصر كمن يقول إن الله - وهو العالم بما كان وما يكون وما هو كائن - أنزل شريعة غير قابلة للتطبيق، أو أنه سبحانه وتعالى يأمر عباده بما لا يطيقونه، أو يستطيعون تنفيذه وتحقيقه على أرض الواقع، وهذا من حيث المبدأ قول خطير في منطوقه وظلال كبير في مضمونه، لأن الله سبحانه وتعالى أنزل أكمل كتبه (القرآن الكريم)، وأرسل أفضل رسله (محمد عليه الصلاة والسلام)، وختم بالإسلام كل شرائعه وأديانه، وهو أعلم بحال عباده وما يصلح لهم، وينظم حياتهم بما يكون لهم خير الدارين، لذلك جاء الإسلام ديناً ومنهاج حياة، وهذا يتجسد في عبادات دينية ومعاملات دنيوية ومشتركات إنسانية.
أما الاستشهاد بالتاريخ الإسلامي للدلالة على هذا الطرح غير الواعي وغير المتزن، فهو استشهاد انتقائي، لأن خلافة أبي بكر وإن كانت قصيرة وحافلة بحروب المرتدين وبدايات الفتح الإسلامي، إلا أن أقوال وممارسات الصديق رضي الله عنه كانت تأكيداً للقيم الإنسانية والمبادئ الحضارية، التي جاءت به الشريعة الإسلامية وتحققت في العهد النبوي، بل إن أول إعلان لمبادئ الدولة الدستورية - وهي من جانب السياسة الشرعية - كانت في خطبة الصديق الشهيرة بعد تولي الخلافة، كما أن خلافة عثمان كانت استمراراً وتفعيلاً لكل الخطوات والأعمال السياسية والإدارية، التي وضعها الفاروق لتنظيم أجهزة الدولة ودواوينها بما يتفق تماماً مع جانب الشريعة في ما يخص العمران والمعاملات والمشتركات الإنسانية بدلالة أن الفاروق أخذ من الروم والفرس الدواوين، وكذلك الحال بالنسبة للإمام علي كرم الله وجهه، فرغم سنواته الخمس التي استشرت فيها فتنة الثوار والخوارج إلا أنه كان يطبق الشريعة في معاملات الدولة وحياة الناس.
أيضاً لم يقتصر واقع تطبيق الشريعة على عهد الخلفاء الراشدين، بل استمر في خلافة معاوية رضي الله عنه، وشطر كبير في الخلافتين الأموية والعباسية حيث تجلى ذلك في خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهارون الرشيد رحمه الله، إلى جانب كثير من الدول الإسلامية التي ظهرت خلال الفترة العباسية مثل دولة نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي، ودولة المرابطين في عهد يوسف بن تاشفين وغيرهم، بل إن الصفحات المشرقة في تاريخنا الإسلامي هي التي كانت فيها الشريعة غالبة وماضية على الجميع، ما يدل على أن النصر والتمكين والسيادة لا تتحقق للمسلمين إلا بمقدار تطبيقهم للشريعة، ومتى ما تخلى المسلمون عن هذه الشريعة، أو فرطوا في منهاجها القيم تراجعوا على كل الأصعدة حتى يصبحوا مطية كل أمة. أضف إلى ذلك أنه لولا فضل الله، ثم تطبيقات المسلمين للشريعة خلال مسيرة الأمة عبر الأزمنة لما تعمق حبها في قلوبهم، خصوصا أنها صالحة لكل زمان ومكان بحكم خصائصها الفريدة، فهي ذات مرجعية واضحة ومصدر إلهي غير قابل للتحريف أو الزيادة أو النقصان، وتتسم بالشمول والتيسير والعدالة والمساواة.
ولكن مع ذلك ينبغي أن ندرك أن العمل بالشريعة لا يعني أخذها جملة واحدة، أو تطبيقها دفعة واحدة دون مراعاة ظروف المجتمعات الإسلامية المعاصرة، خصوصا تلك المجتمعات التي أطنب فيها الاستعمار بقيم الحياة الغربية، وشكّل ثقافتها بألوان التيارات الفكرية المادية من علمانية ويسارية وغيرها، إنما يكون التطبيق وفق فضيلة التدرج كما قال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك بعد توليه الخلافة: (أخاف أن أحملهم على الحق جملة واحدة فيتركوه كله جملة واحدة)، مع مراعاة فقه الأولويات في حياة الناس، ومعالجة الأوضاع السلبية والمشاكل الاجتماعية الراهنة بالمزج بين (النص والواقع) وفق رؤية متزنة تستلهم مناهج المدارس الفقهية السلفية، ولا تستبعد الرؤى الحالية والدراسات المعاصرة.
kanaan999@hotmail.comتويتر @moh_alkanaan