الكمال لله سبحانه وتعالى، عبارة تطلق عندما يتبين أن هناك نقصا أو عيبا في عمل أو إجراء أو إنجاز مهمة، ومن هذا المنطق التبريري، فإن أي عمل يقوم به بنو البشر مهما كانت درجة تمكنهم، وتميز قدراتهم، فإنهم لن يصلوا بما يوكل إليهم عمله درجة الكمال المنشود، فأعمالهم عرضة للنقص تبعا للنقص الحتمي في طبيعة بني البشر، حتى وإن كانت نواياهم حسنة، واستعداداتهم جاهزة، وكفاياتهم عالية، وإمكاناتهم متيسرة متوفرة، وبناء على هذه المسلمة، صار تسويغ الأخطاء سهلا، وفق أعذار واهية، فأضحى للأخطاء على اختلاف أنواعها ومستوياتها عباءة يتستر بها المتلاعبون، ومظلة يستظل تحتها الفاسدون الذين يبحثون عما يبررون به تقصيرهم وعجزهم عن الوفاء بالتزاماتهم وعهودهم.
من هذا المنطلق الأعرج، والمنطق الأعوج، وخشية من التمرير والتبرير والتمادي في التقصير، تعارف الناس على إسداء النصيحة لمن يتبين تقصيره، ويظهر ضعفه ونقصه، وجرت العادة في عموم الأحوال على تقبل النصائح، بل إنه يثنى على من يسديها ويدعى له ويشاد به، ومن موروث ثقافتنا، «الدين النصيحة»، و»رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا».
إن إسداء النصيحة وفق أصولها، والتنويه عن العيوب وفق المنهج والأسلوب المتعارف عليه، لن يكون لهما القيمة المتوخاة، والأثر المنشود ما لم يتما وفق رؤية صادقة عادلة، ومنهج موضوعي أمين، ولهذا يخلط بعضهم بين النقد الموضوعي الصادق، الحريص على المصلحة العامة، الذي يهدف إلى الإصلاح والتطوير، والمحافظة على المكتسبات، وبلوغ الغايات بأجل صورها، وتمام كمالها، وبين التجريح والتشهير، الذي غايته تسجيل المواقف، أو إظهار الذات الغارقة في أتون الأنانية، وشهوة الشهرة، المتحيزة بلا حياء، المدفوعة غالبا بدافع الانتقام ورد الاعتبار، المتلذذة بتصيد الأخطاء، وبالوقوع على الهنات البسيطة، إن المغرمين بتصيد الأخطاء يشبهون الذباب الذي لا يقع إلا على الجراح ليؤذيها ويزيدها ألما.
إن النقد الموضوعي مطلب عقلاني، وضرورة مجتمعية، توجبه التطلعات الصادقة نحو بلوغ الأهداف والغايات، وتطوير الأداء وتجويده، وتحتمه النوايا الصادقة العازمة على محاربة الفساد الذي تبدو مظاهره وصوره معلنة متبجحة.
أثبتت الوقائع أن الذي يخشى النقد ويخافه، ولا يرضى به ولا يتقبله، ويضيق الخناق على كل من يتصدى بالرأي لأوجه الفساد والتقصير، إنما هو شخص مستعد ومهيأ لممارسة كل الأدوار والأساليب الملتوية التي توصله إلى غاياته، إنه شخص يضمر النوايا السيئة لخرق الأنظمة وتجاوزها، ويتبع السبل الشيطانية في تسويغ صور الإهمال والفشل، ومن البدهي أن من يتسم بهذا الخلق، حتما لن يتقبل أي صورة من صور النقد مهما كانت موضوعية صادقة مخلصة، ومهما كان التناول هامشيا ومحدودا.
إن الضيق بالنقد والتحسس منه، وعدم إتاحة النافذة المناسبة لممارسته، وخاصة في مجالات النفع العام، والتشكيك في نوايا الناقد، والتثريب عليه، واعتباره خارجا عن إطار الوطنية، يفتح الباب واسعا لتفشي الفساد واستفحاله، وفتح شهية الفاسدين لمزيد من الممارسات الفاسدة التي تضر بالمصالح العامة، وبهذا أضحت صور الفساد الإداري والمالي تتصدر الحديث في المجالس والمنتديات، ويدل الضيق بالنقد دلالة قاطعة على عدم استشعار الأمانة الملقاة على عاتق من تحمل مسؤولية رعاية مصالح الناس وحاجاتهم، وأن لديه رغبة جامحة في مواصلة ممارسات التجاوز والتقصير.
إن إبراء الذمة من تبعات الإخلال بالمهمات الوظيفية وفق أصولها، وضوابط تسييرها، ومستويات إنجازها، وما يترتب على التفريط في المحافظة على المال العام وضبطه، يوجب تمكين ذوي الرأي والبصيرة من ممارسة أدوارهم في النقد الموضوعي البناء، وإعطائهم المزيد من حرية التناول دون تهيب أو تردد.
ab.moa@hotmail.com