قال أبو عبدالرحمن: يثيرُ شجني كثيراً مقطوعة شعرية عامية معاصرة، فأترنَّم بلحنها تلقائياً من غير شعور في لُـحَيْظات الغفلات، ومنها هذا البيت:

وأنا اَحسِبَنِّي صِغيرْ وْبالعِمِرْ توِّيّْ

ولاشكِّ شَيَّبْتِ واحْلَى العِمْرِ عَدَّيْتِهْ

وهذا اللحن الجميل يُضْبط الشطر الأول من وزنه بأربع تفعيلات على (فعولن)، والخامسة (فاعـلْ).. ولو نظمتَ بالفصيح على هذا اللحن، وغنَّيْتَهُ: لخرج لكَ شعر غنائي لذيذ.. وإذا حذف الشاعر الواو مِن (ولا شكِّ) أصبح الغناء بها هكذا: (لَشاكِّ)؛ فلا يتغيَّر وزن (فعولن)؛ وبهذا نعلم معنى الزحافات الجائزة والعِلل غير اللازمة في علم العروض التي لم يَذْكر العروضيون لها معنى معقولاً، ولا يُعْقل معناها إلا بالتجرِبة الغِنائية.

***

ليس كلُّ قولٍ جميل يكون شعراً إلا على سبيل التجاوز بالمبالغة، وليس كل منظوم يكون شعراً جميلاً، بل تركيبة العقل البشري أن يُسمِّي الأشياء بأسمائها، وأن يتصوَّر المُسَمَّيات بِهُوِيَّاتها.. والشعر الجميل يكتسبُ مُجملَ جماليات القول، ويتميَّز بخِصِّيصةِ أنه مرتبط بالموسيقى والرسم، فالشاعر مُغَنٍّ ولا بد، وهو مُصَوِّر يجعل الكلمات لوحاتٍ معبِّرة إلا أنها ناطقة بخلاف اللوحة، والشاعر غير قنوع بدلالة اللغة الحرفية التي يُوَصِّل بها مراده؛ فهو يستشرف دائماً إلى توسيع الدلالة بملكة الخيال، وبالأساليب البلاغية الإيحائية، ويفرح بما في الشعر من دلالة الأسطورة، ودلالة التداعي، ودلالة بعض ما في المسمَّى التي يسميها الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى انطواءً(1)، وكدلالة اقتران المسميات في الزمان والمكان، وكدلالة الصوت الطبيعي؛ فتقول: (أذَّن الدِّيكُ) وأنت تريد حلولَ وقت السحر، وكدلالة مجرى العادة في الملموس أو المرئي، فتقول: (امتلأ ضرع العنز) وأنت تريد حلول الفجر الذي هو وقت الحلب.. ولستُ أريد بكونِ الشاعر مُغَنِّياً أن يكون على منهج الشعر العمودي وزناً واحداً وقافية واحدة.. وقلتُ (وزناً) ولم أقل (لحناً)؛ لأن أكثر الشعر العمودي تقطيعٌ عروضي بصري، والحاذِق من يرتسم في سمعه المرهَف القالبُ الوزنيُّ لكل بحر، ولهذا أَوْصَوا من يحاول النظم أو إقامة الشعر بحفظ قصائد على كل ضرب وعروض من كل بحر؛ وأما الشاعر العامي الفطري فيسمِّي شعرَه وشعرَ غيرِه غِناءً، ويقول: (ثم غَنَّيتُ بهذه القصيدة).. يريد ثم قلتُها؛ لأن الغِناءَ أداتُه في قول الشعر.. والفصحاء الذين أدْركوا أن خِصِّيصة الشعر غِنائيته يقولون: (كلٌّ يُغَنِّي على ليلاه) يريدون أنه يقول شعره في حبيبته الـمَكْنِيِّ عنها بليلى.. وإنما أريد ارتباط الشعر بالموسيقى بتكوين وحدة لحنية يرتاح لها السمع حيناً قبل الانتقال المفاجئ إلى لحن آخر؛ وأريد ارتباط الشعر بالموسيقى بوقفاتٍ تُكوِّنُ أيضاً وحدةً لحنية يرتاح لها السمع حيناً؛ ويكون ذلك بوقفات موزونة أَفْضَلُها القافية الواحدة قبل الانتقال المفاجئ إلى وقفات لحنية أخرى.. وموسيقى الشعر ذات معنيين الأول خصِّيصة للشعر، والثاني مطلب لكل قول جميل؛ فالمعنى الأول موسيقى خارجية؛ وهي ما أسلفته عن اللحن والقافية.. والمعنى الثاني حُلًى (جمع حِلْية) نغمية توجد في نفس المفردة في تركيبها، ثم توجد في قدرة الملحِّن،وهذه يسمونها الموسيقى الداخلية، وهي توجد في النثر أيضاً؛ فإذا كانت الجملة النثرية ذات مفردات موسيقية ومفردات إيحائية قالوا: هذه كلمات شاعرية.. ولا يكون الشعر غنائياً إلا بتلحين ساذَج يُظهر هُوِيَّة اللحن وتساوُقَه، ولا يكون ذا موسيقى داخلية إلا بأناقة في الأداء نبراً ومسافة زمنية للحرف، وتأرجحاً أفقياً ورأسياً في النطق بالحرف ولا سيما حروف المد في نظامٍ متَّحِدِ المكان والزمان خلال كل بيت، ومَن أصْغى للملحنين القديرين والقُرَّاء أدرك ذلك؛ وبهذا تأتي الموسيقى الداخلية عَفْوَ الخاطر.. وقد عانيتُ في تجربتي الشعرية المتواضعة النظم بالمسطرة بالتقطيع البصري لعروض الخليل؛ وذلك في أكثر عمري الماضي؛ فجاء الشعر ركيكاً متكلَّفاً نثرياً، وكان ميلادُ القصيدة عسيراً يأخذ أياماً.. ثم جرَّبتُ الغناء الساذَج أو المتأنِّق بالوزن العروضي، فأقول الشعر باللحن لا بالوزن، فتخرج القصيدة غنائية سريعة الميلاد، ومن ذلك قصيدتي (لمن يصنع القيثار) فقد ألْقيتها مع قصيدة أخرى في بغداد عام 1398هـ؛ فكان الجمهورُ يجاوب أدائي بالغِناء، ويشهد على ذلك حمد القاضي، وحسبك به في العُدول !!.. ومن هذه القصيدة:

[يا للعجب.

قيثارنا.

شريحة من الخشب !!.

شريحة من الخشب ؟.

لا عاش جيل الفن والأدب.

إن كان هذا الشيخ من خشب.

برئت من أمجادي التي توارت في الحقب:

ريم على القاع - وبين البان والعلم.

أضحى التنائي - واسقني واشرب على أطلاله.

إني وكل شاعر من البشر.

شيطانه أنثى وشيطاني ذكر.

والظالمون جاوزا المدى.

لا تكذبي إني كرهت الأدمعا.

وكرمة ابن هانئ.

مغروسة للحب والحبب.

تألقت شدواً على عزف الوتر.

برئت من أمجادي التي توارت في الحقب.

وكل ما قالوه عن جيش لجب.

والسيف واليلب.

أصدق أنباء من الكتب.

وحرة في الحي في نادي العرب.

قد أعجبت.

بي بين نادي قومها.

لمن تغني الحب والغزل.

من تحت شرفة الحياء والخفر.

من تحت مخدع النصوع والطهر ؟.

قيثارنا ؟!.

لقد تَبذَّل الغزل.

واستنوق الجمل.

ما عاد حرمان ولا تمنُّع ولا هجر.

ما عاد طهر أو نصوع أو خفر.

ما عاد تهويم ولا فكر.

ما عاد ذوب الدمع من جمر الشفق.

لمن تغني الطهر والخفر.

والحسن أصباغ وتطرية.

لم تدر ما سر الكَحَل.

سقياً ورعياً يا عهود الأنس بالعقيق أو سلع.

يا أعين المها.

يا جيد غزلان الفلا.

بيض الطلى

سود اللعس.

لمن تغني والأُلى ليسوا عرب ؟!.

ليسوا - ومن شق النوى - عرب!.

((كلامنا لفظ مفيد كاستقم))

وأمتي بين الأمم.

أمية.

إنجيلها في صدرها.

تهوى السمر.

رنانة.

رجع حديثها كحبات المطر.

أو شدو بلبل.

أو قُبَّرة.

شفافة.

تستلهم الزهر.

تستلهم النسيم والمساء والأصيل والسحر].

ولهذا السبب أصبح عندي يقيناً كرؤية الشمس رابعةَ النهار أنَّ الشعر الغنائي عند مثل البحتري والشريف الرضي ومهيار والديلمي وعلي محمود طه - ولم يكن إبراهيم ناجي كذلك ؛ لأن الملحِّن عدَّل وبدَّل - كانوا يُغَنُّون شعرهم غناء متأنِّقاً.. واللحن لا نهائي، وهو أشمل من الألحان التي في أوزان العرب؛ فارْفَعْ عقيرتَك باللحن على أي وزن كان فيخرج لكَ شعر غنائي؛ فليس في شعر العرب لحن على وزن (فاعلاتن - فعولن) على سبيل المثال، ولكن لهذا الوزن لحن شعبي لذيذ مثل لحن: (يا وجودي عليهم وجد من فاطر له)، وقد علمتُ أن للشاعر السوداني محيي الدين فارس شعراً جميلاً على الألحان الشعبية جنوبَ السودان، وإلى هذه اللحظة عجزتُ عن الحصول على دواوينه.. حتى الأوزان الخليلية إذا رفعتَ عقيرتَك بالغناء بها خرج لك لحن لذيذ قد لا يكون معروفاً عند القدماء؛ فالبحر الطويل له لحن شعبي معروف كُنَّا في الصغر نُغَنِّيه في الأنقاء بالليالي المقمرة مثل قول سليمان بن شريم رحمه الله تعالى: (سرى البارق اللي له زمانين ما سرى).. وضرورة الغناء في الشعر هي المكوِّن لهويَّته، وليست المقوِّم لكل جمالياته ورسالته؛ فهذا المهندس علي محمود طه شاعر غنائي، ولكنه رائد في جماليات الشعر ورسالته.. قال في مطولته (الله والشاعر)(2):

هأنذا أرفعُ آلامَهُ

إلى سماءِ المنقذِ الأعظمِ

أنا الذي تُرسلُ أنغامَهُ

قيثارةُ القلبِ و نايُ الفمِ

من عبراتي صُغتُ هذا المقالْ

و من لهيبِ الرُّوحِ هذا القَلَمْ

ملأتُ منهُ صفحاتِ الليالْ

فَضُمِّنَتْ كلَّ معاني الألمْ

أنا الذي قدَّسْتَ أحزانَهُ

الشَّاعرُ الباكي شقاءَ البشَرْ

فَجَّرْتَ بالرَّحْمةِ ألحانَهُ

فاملأْ بها يا ربِّ قلبَ القدَرْ

قال أبو عبدالرحمن: المقطع الأول عن العالَم، والمقطع الثالث عن المتَلقِّي، وقوله: (أنا الذي قدَّستَ ألحانه) خطاب للرب سبحانه وتعالى؛ وبالمعيار الشرعي ففي هذا الخطاب تجاوز مذموم؛ لأن أقوال الشعراء في جمهرتها ليست مُقدَّسة شرعاً، وأقلُّ ما فيها الـمُباح.. وهو بهذا الغناء يعبِّر عن رسالة الشاعر، أو يجيب عن سؤال: (لماذا الشعر)، وهو سؤال تَفَلْسَفَ فيه إِرنست فيشر بكتابه (ضرورة الفن)، وله نصيب من التناول في مداخلاتي إن شاء الله، وقد أُعجب بالقصيدة صلاح عبدالصبور وهو شاعر حداثي(3).

والفكر مِن مقومات جمال القصيدة، ولكنه ليس معاياة عقلية وإن كان موضوع القصيدة كله فلسفي كبعض قصائد أبي العلاء وبعض شعراء التصوف وجبران خليل جبران وإيليَّا أبو ماضي.. وسعة الثقافة من مُقوِّمات جماليَّات الشعر شكلاً ومضموناً، ولكنَّه ليس دروساً في الثقافة، ولو كان كذلك لكان نظماً تعليمياً كالمنظومات في الآداب الشرعية، وفي النحو.. إلخ.

قال أبو عبدالرحمن: أُنْكِرُ أشدَّ الإنكار العناوينَ السفيهةَ للكتب والمقالات ما بين شتائم ونبزٍ بالألقاب وعباراتٍ عسكرية، وكلُّ هذا لا يُقرُّه خُلُقٌ ولا دينٌ مثل: (إسكات الكلب العاوي يوسف بن عبدالله القرضاوي)، و(الكاوي لدماغ السخاوي) و(وَيْلَكَ آمِن) في الردِّ على الألباني رحمهما الله تعالى، و(تنبيه الغبي)، و(القول الجلي في الرد على الغبي).. ومثل هذا العنوان الأخير كثير في مؤلفات القاضي أبي بكر ابن العربي رحمه الله تعالى، ولن أستعدي مَن قد يسيئ بي الظن بذكر عناوين مشابهة.. ولقد حمى الله الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ لورعه ورُجحان عقله من العناوين الاستفزازية التي لا يُقِرُّها الشرع، كما حَمَى الإمام ابنَ حزمٍ قبله من هذه العناوين، ولكنهما يشتركان في حِدَّة القول مع المعارِض - وابن تيمية أقلُّ حِدَّةٍ كتابةً لا مشافهةً إن صحَّ بعض ما ذُكِر في تراجم العلماء له -، وهذا مُسْتَحْمَدٌ إذا أَسْفَرَتْ لوائحُ البرهان على أنَّ المعارِض معانِد.. وأبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى تَـحَارُ بين رِقَّةِ طَبعِه في إحصائه حَـمَلَة الآثار وأصحاب الفتوى، وابتهاجه بهم، وكثرةِ ترحُّمه عليهم، ومفاخرته بهم.. وبين عنفه في أحيانٍ أخرى؛ فهو منجنيق لا يترك شيئاً أمامه إلا أتى عليه (وهذا تُسمِّيه العامة في نجد: مِدْفَعَ فَتْحٍ)؛ ولكن لذلك أسباب والأخير منها غيرُ محمود؛ وتلك الأسباب أنه لا يثور إلا عندما تلوحُ له لوائحُ البرهان على المعانَدة والحمية للتقليد، ومنها الغيرة لله سبحانه وتعالى في ردوده على أهل المِلَل والنِّحَل.. وهذان السببان يُشْكَر فيهما العُنْف بلا سفاهة بوخزاتٍ جميلةٍ أدبياً، رائعة فكرياً تثير مشاعر القلب بالتأنيب.. ألا ترى كليم الله موسى أمره ربه سبحانه وتعالى مع أخيه هارون عليهما وعلى عبد الله ورسوله محمد وعلى جميع أنبياء الله ورسله أفضل الصلاة والسلام: أن يقولا لِأَكْفَرِ الكَفَرَة فرعونَ قولاً ليِّناً لعله يتذكَّر أو يخشى؛ ففعلا ذلك؛ فلما ظهر عِنادُ فرعون، وقطع سلطانَ البرهان، وانصرف إلى سلطان البطْش: صفقه موسى عليه السلام بقوله - كما قصَّ الله سبحانه وتعالى عنه: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً} [سورة الإسراء/ 102].. وهذا إبراهيم الخليل عليه السلام لَـمَّا نُكس قومُه على رؤوسهم بعد أن أذعنوا لحقيقة أن الأصنام لا تضر ولا تنفع، وبقوا على العناد: وبَّخهمقوله (كما قصَّ الله عنه سبحانه وتعالى): {أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [سورة الأنبياء/ 67]، وهكذا وصية الله لنا في إعلان البراء والولاء مع رجاء فيئةِ المعانِد بقوله تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ{4} رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{5} لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ{6} عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [سورة الممتحنة/ 4-7].. وفي خلاف فحول العلماء الربانيين في المسائل الفرعية - إذا ساء الفهم للواضح، أو ظهر ميل عن الرجحان الشرعي بالرأي الذميم - نجد في عباراتهم لذعات تأنيبية.. بل تجد ذلك في اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم كما بين عمر وأبي هريرة وكعب الأحبار، وكقول عائشة الذي حُمِل على أنه تعريض بابن عباس رضي الله عنهم جميعاً: (لقد أعْظَمَ الفريةَ على الله من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه)، وكما بين ابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم في المتعة.. ومنها سَفاهةُ بعض معاصري الإمام ابن حزم من أهل الأندلس من عوامِّ الفقهاء الذين لا يفرِّقون بين جابر بن عبدالله وجابر بن زيدٍ، ولا يميِّزون بين حديثٍ صحيحٍ أو ضعيفٍ، ومصادرهم تروسٌ مُعَكَّمَة تشتمل على الفتوى بدون دليل كالمدوَّنة؛ ولهذا سعى مع صديقه أبي عمر ابن عبدالبَر رحمهم الله تعالى جميعاً - بغير اتِّفاقٍ شفهيٍّ - في نشر الأدلَّة والبراهين من العقل والشرع وما ثبت من السنة المطهرة استكمالاً لمسيرة بَقِي بن مخلد وقاسم بن أصْبَغْ وابن أيمن وابن عبدالسلام الخُشني وابن وّاح وغيرهم رحمهم الله تعالى.. بينما كان في الزوايا المظلمة أمثال عباس بن أصبغ (وهو غير قاسم الإمام) الذي قال: (لئن يكون في بيتي خنزير خيرٌ من أن يكون فيه مصنَّف ابن أبي شيبة).. وهؤلاء العوام آذوه بالعبارات النابية، والكذب عليه بمسائل لم يقل بها وتبرَّأ منها؛ وذلك برُزَمٍ ألقوها في قصره كما نجد في ردِّه على ابن الباريَّة والعِتْقي، وكسروا خاطره بالهياج والصراخ عند مناظرته لأبي الوليد الباجي وقد فَلَجَهُم بالبراهين النيِّرة، ولو بقي المجلَّدُ الذي ذكره الحافظ ابن حجر عن مناظرتهما الوحيدة لوجدنا العجب؛ لأن ما رُوي من بعض مناظرتهما يدل على تفوُّق ابن حزم على خصمه؛ ولا عبرة بقول المؤرخ أبي حيان: (إن الباجي فلَّ غرب ابن حزم)؛ لأن بين والد أبي حيان ووالد ابن حزم تنافسٌ على الوزارة رحمهم الله تعالى جميعاً، وأما الكتابان المطبوعان عن مناظرتهما (وهما نقلٌ من مؤلفات ابن حزم، واستنباطات من مؤلفات الباجي) فليس فيهما ما يُحتمل أنه من مناظرتهما سوى نصين أو ثلاثة، والباقي من مناظرة ابن حزم لغيره من العلماء ممن هم على مذهب الباجي مالكيةً وأشعريةً كأبي محمد مكي وحسان بن عَبَدة وغيرهما.. ومن تلك الأسباب ما ذكره عن نفسه من أثرٍ في الطحال وَلَّدَ عليه نَـزَقاً، والسبب الأخير غير المحمود تعصُّبه لأصولٍ أصَّلها وفي قليلٍ من تأصيله خَلَلٌ أو نقصٌ كالقياس والعلَّة والدليل وتحقيق تعريف الأخذ بالظاهر - ولم يصل إلينا جميع كتبه -، وفي التأصيل الصحيح (وهو الأكثر) خَلَلٌ قليل في التطبيق؛ ولهذا لم أكن حزمياً محضاً؛ لأنني أستحيي أن أقول: (إذا قالت البكر زوِّجوني فلا يجوز تزويجها، بل لا بد أن تصمت)، وهذا تفسيرٌ منه للحديث الشريف أنَّ إذنَ البكرِ صُماتُها، وهو جهلٌ بلغة العرب؛ فمن المعلوم أن المجاز غالب الاستعمال هو الظاهرُ اللغوي؛ لأنه يُعْلَمُ بلا قرينة بينما الحقيقة في هذا الموضع لا تُعلم إلا بالقرينة.. وكلُّ ذي سليقةٍ عربيةٍ، وكلُّ ذي دِرْبَةٍ على لغة العرب: يعلم أن النطق أبلغ من الصُّمات؛ وإنما رُوعيَ الأدنى الذي هو الصُّمات لغلبة الحياء على البكر.. وأستحيي أن أقول: (لا يقع الظِّهار حتى يُعيدَ النطقَ به)، وهذا أيضاً جهلٌ بظواهر اللغة العربية؛ لأن الله لم يقل: (حتى يعيدوا ما قالوا)؛ وإنما ذكر سبحانه وتعالى العودةَ لما قالوا، وهو الرجوع عن المظاهرة الذي تلزم عنه الكفارة، وهذا هو الظاهر اللغوي فيستعال العرب؛ لأن العود في القول رجوعٌ عنه؛ فليس هذا هو الأخْذُ بالظاهر الذي صرفتُ له عُمري، بل هذا خلاف الظاهر.. وكل مَن وُفِّق لإصابة مراد المتكلم آخذٌ بالظاهر، وليس الظاهر بمعنى ما يظهر بوضوح بلا عناء، بل الظاهر ما يظهر بوضوح وجلاء وما يظهر بدقة استنباط بعناء.. وغير الظاهر ما لا يمكن أن يظهر أبداً من مراد المتكلِّم إلا بالادِّعاء عليه، ولن يظهر مرادُ المتكلِّم إلا بدلالة تصحيح من لغته ودلالة يقين أو رجحان على مراده الذي يُخصِّص عموم لغته.. وما كان مُحْتَمَلَ المراد بلا رجحان يُعَمِّمُ كلَّ الاحتمالاتِ مراداً، أو يُعيِّن شيئاً على أنه المراد: فيجب التوقُّف فيه.. وتفسيرات الباطنية لكلام الله وكثير من التفسير الإشاري الصوفي افتراءٌ على الله؛ لأن أول مفقود فيه دلالة التصحيح من اللغة التي نزل بها كلام ربنا سبحانه وتعالى، وأكثر ذلك التفسير تنفيه لغة الشرع المطهر.. ومن خلاف الظاهر عند بعض الفقهاء قوله: (إن من شرب خمس رضعات تُفَتِّق الأمعاء وتُنْشز العظم، أو عمل منه ما يؤكل.. إلخ حرم بذلك ما يحرم من النسب).. والنص الشرعي ورد باسم (الرضاع)، وما قاله ذلك الفقيه فهو شرب أو أكل عن حَلْبٍ لا عن الرضاع الذي هو مصٌّ بفيه من ثدي؛ فلم يدل على ذلك الزعم دلالة تصحيح من لغة العرب؛ فهو افتراء على الشرع وليس ظاهراً.

ومن الأمثلة لاحترام المعرفة البشرية من العقل ومصادره؛ لأنه الأصل في الإيمان بالشرع، والأصل في تَلقِّيه بتحقيق ثبوته ودلالته وتمييز أحكامه بلا حذف منه ولا زيادة عليه ولا استبدال: فَحْصُ قواعد علوم مصطلح الحديث تأصيلاً وتطبيقاً، ولا نتلقاها قوالبَ جاهزة، ولا نحاكيها محاكاة الببغاء؛ فإذا قال لنا المحدِّث: (هذا حديث صحيح الإسناد) - يعني مُتَّصلاً بالعدول -: قلنا: هذا إذا صح اتصاله بالعدول مقتضٍ العلمَ والعمل، ولكن بشرط تَخَلُّف المانع؛ فالفحص تأصيلاً قد يُظهر لنا أن الإسناد إنما هو متصل بالعدول عن الصحابي رضي الله عنه لا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الصحابي تلقاه عن أهل الكتاب، وأن نصوص الشرع القطعية تدمغ المتن وتُظهر بُطلانه، وقد ضربتُ لكم المثال ببطلان الحديث المروي عن أبي هريرة رضي الله عنه مرة مرفوعاً بعضه، ومرة موقوفاً كله عن كون هاجَر أمِّ إسماعيل عليهما السلام جارية، وقد ورد في الصحيحين، وبيَّن ابن الملقَّن بإشارةٍ تلفت النظر إلى التمعُّن في وقفه، ثم وجدته لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أبا هريرة رضي الله عنه رواه عن أهل الكتاب - والعدل يَهِمُ وينسى -، وهو مطابق لما في (سِفْر التكوين) مع بعض التناقض، وكلا النصين كاذبان مفتريان من توليد اليهود ذوي العداء الشديد لإسماعيل عليه السلام وذريته، وقد بيَّنتُ أن هاجَر رضي الله عنها سيِّدةٌ من خيار الحرائر، وذكرت النصوص الشرعية القطعية الدامغة لأكاذيب يهود في المتْنَين.. والعدالة صدق في الدين، والثقة صدق في الخبر، وليس كلُّ عدلٍ صدوقٍ يكون معصوماً من النسيان والخطإ والوهم؛ فلا يُوثق بخبره في تلك الواقعة بأسباب النسيان والوهم والتداخل وغيابِ شيئ في السياق، بل لا بد أن يصحب المقتضِي (وهو صحة الإسناد) تخلُّف المانع من قبول الخبر، ثم يكون البحث الجادُّ في إسناده حتى يستقر الأمر على آفة في رواية العدل كالنسيان لا تُخِلُّ بدينه وصدقه، وقد لامس الشوكاني ملامسةً خفيفة مسألتين في رسالتين بالمجلد الرابع من الفتح الرباني هما: (الجواب على مَن قال: إنه لم يحصل التعرُّض لمن في حفظه ضعف من الصحابة) رضي الله عنهم، و (الجواب عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أو لا؟)، وأطال النَّفَس برسالة ثالثة في المجلد نفسه عن (البحث في قول أهل الحديث: رجال إسناده ثقات).

قال أبو عبدالرحمن: العالم النحرير في العلم بأحوال الرواة وجَمْعِ الأحاديث إنما يرشدك بخبرته أن الحديث صحيح الإسناد.. وقد لا يكون فقيهاً، ولا مُشْرِفاً على العلوم الأخرى، ولا حاذقاً لنظرية المعرفة.. والتأصيل الصحيح عنده أن (صحة الإسناد المقتضي صحة الحديث) مشروطٌ بارتفاع (عِلَّة قادحة)، والعلم بذلك قد لا يكون هو النصيب الأوفر لدى رواة الأحاديث ومحققي أسانيدها.. بل للعلم بالمتون رجاله من ذوي الإشراف الأوسع على العلوم، وذوي الإدراك العقلي الأرفع؛ لرصانة فكرهم موهبةً وتدريباً؛ فالعلم بالعلل باعتراف أهل مصطلح الحديث من أغمض علوم الحديث وأشرفها وأدقِّها.. ومن الأمثلة تحقيقي لرسالة ابن حزم عن حديثين حكم عليهما بأنهما موضوعان (أحدهما في صحيح مسلم، والآخر في صحيح البخاري)؛ فنفيتُ دعوى الوضع، وأثبتُّ الوهم في أحدهما، وسوء الفهم لدى أحد الرواة عن أنس رض الله عنه، وأنه خالف الثقات وخالف سورة النجم على أن الذي دنا وتدلى جبريل عليه السلام لا ربنا سبحانه وتعالى.. وأما الحديث الثاني عن زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنهما فقد أطال النفس حوله المقريزي في الإمتاع، وسطا عليه بعض العلماء رحمهما الله تعالى كعادته كثيراً في كتابين من كتبه، ولم يردَّ الفضل إلى أهله فيذكر المقريزي ولو بإشارة.. وآخر ما في هذا العبء أن العلوم التأصيلية والاصطلاحية تُعقِّد العلوم، وتجعل الواضح غامضاً، وهكذا مختصرات كتب الفروع التقليدية كالزبد عند الشافعية وزاد المستقنع عند الحنابلة - وبعض الطلبة يتعبَّد لله بحفظه !!-، وأضرب المثال للتعقيد في كتب التأصيل والاصطلاح أن عباد الله يفهمون بأيسر طريق وأسرع فهم أن الحج لا يجب إلا مع الاستطاعة، وأن الاستطاعة شرط الوجوب؛ فإذا رجعت إلى مثل كتاب الشيرازي رحمه الله تعالى في مصطلح الحديث وجدت تعقيده لهذه المسألة الواضحة جاء بعبارات شديدة الغموض؛ فالنتيجة تعريف الواضح بالغامض!!.. وأرثي لمن أفنى عمره متشدِّقاً بمثل عُضَل وخيالات الإحكام في أصول الفقه للآمدي؛ لأن دين الله لو كان لا يُفهم إلا بذلك الغموض لكان العلم بدين الله محجوباً عن جمهور الأمة، وخير منهج للمتثقِّف في أصول الفقه أن يستوعبَ رسالة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى؛ لوضوحها بالأمثلة، وقُرْبها من بديهة الفهم للنصوص.. ومثل الإحكام لأصول الأحكام للإمام ابن حزم، ثم يرقَّى باستيعاب البحر المحيط للزركشي رحمه الله تعالى؛ لما فيه من التقصِّي والسهولة، ثم إذا بُلي بمثل كتب الآمدي وغيره أشرف عليها مُستعلياً بالله ثم بفطرة العقل وحُسْن الفهم للشرع؛ فيفلُّ غروبها غموضاً وأغلوطة وسوء فهم، ويأخذ ما كان فيها من حق؛ فيدلي به بأوضح بيان بلا غموض؛ فإن كان ذلك بترقيصٍ جماليٍّ بلا إسراف فذلك أشدُّ جاذِبيَّة للمتلقِّي.. ومن أعباء تخلُّف الاجتهاد والأخذ بالظاهر: أن حامل شهادة (شيخ) أو ليسانس أو ماجستير أو دكتوراة في الشريعة إذا أظهر موهبةً في فهم مذهب فقهي اختار تقليدَه، وأظهر موهبة في الدفاع عنه ونصْرِه بالحق وبالباطل: مُحاسَبٌ على هذه الموهبة: لماذا لم يصرفها في التفقُّه في شرع الله الميسَّر للذكر، ولماذا لا يتلقَّى العلم بذيول كل مسألةٍ من أهل التخصُّص بالإدراك العقلي الرصين تاريخاً أو نحواً أو لغة أو بلاغة.. إلخ، ولماذا لا يكون صادقاً مع نفسه فلا ينصر إلا حقَّاً يعتقده، ولماذا يحصر الصواب والاتباع لإمام بعينه، أو لعلماء على مذهبه خَرَّجوا على مذهبه أحكاماً بيقين أو رجحان أو احتمال؟؟؟؛ فهذا الحَصْرُ برهانٌ على أنه لا ينصر حقَّاً يعتقده.. أفلا يعلم أن الـمُـتَّـبَعَ شرعُ الله، وأن مَن ملك موهبة الاحتجاج للمذهب فهو محاسب عند الله بصرف الموهبة بالاحتجاج لغير شرع الله، بل للاحتجاج لاجتهاد أهل المذهب بإطلاق، وأنه لا طاعة لمخلوق إلا بموافقة أمر الخالق، وأنه محال أن يكون الحق كله أو أكثره عند إمام بعينه ؟!، وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان، وعليه الاتكال.

------

(1) انظر مواضع من كتاب التقريب ولاسيما ص513 - 519 بتحقيق الشيخ عبدالحق التركماني مع مقدمة لي طويلة محققة جعلها الشيخ التركماني مقدمة لتحقيقه الكتاب!/ دار ابن حزم ببيروت طبعتهم الاولى عام 1428هـ.

(2) انظر القصيدة في ديوانه ص267 - 294 جَمْعُ ودراسة سهيل أيوب المحامي/ المؤسسة الثقافية بدمشق عام 1962م.

(3) انظر كتابه نَبْض الفكر/ قراآت في الفن والأدب ص86-87/ دار المريخ بالرياض عام 1402هـ.