جمع وحقق وشرح العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ديوان الشاعر المشهور بشار بن برد، وقد حظي باقتناء جزء كبير من الديوان، وفي شرحه للديوان بين غريب اللغة وما خفي من المعاني، كما كان يشير رحمه الله إلى عادات عصر الشاعر وتاريخ الرجال والحوادث التي نظمها شعره، وخصص في طالع كل قصيدة الغرض أو الحادثة التي قيلت فيه. وقد كتب في مقدمة الكتاب عن نسبه، واسمه وكنيته ولقبه، ومولده ونشأته ووفاته، وصفته، ولباسه، وخلقه، وبداهة جوابه وملحه، ومجلسه واعتقاده، وسبب وفاته، ونكاته لدى الخلفاء والأمراء، وغرامه وهل هو حقيقة أم تصنع، وسعة علمه بالعربية وتفننه، ومرتبته في العلم، وشعره، وغزل بشار، ورجزه وهجائه، وإلى غير ذلك. ويدعي العرب أن للشعر شيطاناً، وأن لبشار شيطانه الشعري مثله مثل من سبقه من الشعراء. وذكر الشيخ ابن عاشور أن من مزاعم العرب في الجاهلية أن لفحول الشعراء شياطين أو حنة يلقون جيد الشعر إلى الشعراء. وقد ذكر ذلك الأعشى وحسان بن ثابت (قبل الإسلام) وذكره الفرزدق وجرير وأبو النجم.
قال الجاحظ في كتاب الحيوان: (يزعمون أن مع كل فحل من الشعراء شيطاناً يقول ذلك الفحل على لسانه الشعر) (وساق أبياتاً تضمنت ذلك بعضها نسبة للأعشى وبعضها لأبي النجم وبعضها إلى بشار وبعضها لآخرين منها ما هو منسوب إلى حسان) ربما اقتصروا على أن الجني من الشياطين وربما نسبوه إلى قبيلة من قبائل الجن وربما ذكروا له اسماً علماً عليه مثل اسم مسحل لشيطان الأعشى، واسم جهنام لشيطان شاعر هجاه الأعشى، واسم شنقناق لشيطان أبي النجم، وقد تبع بشار من تقدمه من الشعراء فذكر أنه دعاه الجني إلى الصحبة وأنه رفض ذلك، وذلك في قوله الذي رواه الجاحظ في كتاب الحيوان والثعالبي في ثمار القلوب، قال الجاحظ:
دعاني شنقناق إلى خلف بكرة
فقلت اتركني فالتفرد أحمد
يقول: أحمد لي في الشعر التفرد من أن يكون لي معين عليه.
وبشار ادعى رؤية شيطان أبي النجم الذي سماه شنقناق فإن أبا النجم قال قبل بشار فيما رواه الجاحظ في كتاب الحيوان:
لاقى شنقناق وشيصبان
وهكذا العرب يعتقدون في الشياطين، وظلوا كذلك حتى يومنا هذا بل زاد بعض أهل عصرنا على من سبقهم فأضحوا يحيلون كثيراً من الأحداث والحوادث والآلام إلى العين والسحر والجن. وقد غرقوا في هذا البحر اللجي حتى أبعدهم عن البحث العلمي وظلوا في أوهامهم يفسرون ما يحدث لهم بما علق في أذهانهم بهذا الثلاثي العجيب: السحر والعين والجن. ولو أن أولئك جعلوا قدرة الله نصب أعينهم وتجاوزوا ما ورثوه من أوهام، واتكلوا على خالق الأنام لما ضاعوا في هذه المتاهات التي لا نهاية لها، ولاقتصدوا في كثير من المال والوهم الذي أضحى ديدن كثير منهم. حمانا الله وإياكم من التعلق بما لا يتسق مع ما أمر به الله جل جلاله. ولعل من نافلة القول الإشارة إلى أن بعضاً من القنوات المرئية وربما الإذاعات المسموعة قد أضحت منبراً لترسيخ هذا المفهوم الخاطىء والانتفاع ببعض من المال على حساب أولئك المساكين الذين أسرفوا في التعلق بتلك الأوهام، وظنوا أن من هم خلف التلفاز قادرون على حل مشاكلهم النفسية والصحية. ومما زاد الطين بلة تفسير الأحلام الذي جند له المنتفعون خيالهم ليستغلوا أولئك المساكين الذين يأملون في التخلص من واقع غير مناسب. أجارنا الله وإياكم من التعلق بغير الله، وحمانا من أولئك المستغلين وثبتنا على دينه والإيمان به.