أتى الأمر الملكي الكريم بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد مؤكداً حرص ولاة الأمر - حفظهم الله - على حماية مقدرات الوطن ومصالح المواطنين ابتداء، ومبرزاً أهمية واحد من أهم برامج الإصلاح الإداري والمالي الذي تبنته الحكومة في تحقيق العديد من أهداف التنمية قصيرة وطويلة الأجل بقيادة معالي الأستاذ محمد بن عبد الله الشريف، وهو أحد الأسماء البارزة في هذا المجال، الغنية عن التعريف.
لعلي في صدر هذا المقال أطلب من القارئ الكريم أن يتفق معي على عدم حصر معنى الفساد بأعمال الاختلاس أو السرقة أو الرشوة فقط، وإن كانت هذه الأعمال تندرج تحت اسم الفساد، إلا أنني أعتقد أن معنى الفساد تمتد شموليته إلى أوجه أخرى مثل سوء الإدارة والتخطيط والتقاعس عن إيجاد نظام رقابي متكامل وعدم ممارسة العناية المهنية اللازمة في الأداء الوظيفي؛ فمثل تلك الأوجه تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في خلق بيئة ملائمة لظهور وانتشار أوجه أخرى من الفساد.
إن الغالبية تتفق على أهمية برامج مكافحة الفساد بأنواعه كافة، سواء المالي أو الإداري، والاختلاف قد يكون في مدى الاتفاق على كفاءة وفاعلية الآليات والوسائل المتبعة في اكتشاف مواطن الفساد أو منع حدوثه، وهو الأمر الذي يتمحور حوله الطرح في هذا المقال، فلو جاز لنا أن نبحر قليلاً في تخيل أنواع الفساد الممكن حدوثها، وكيف تحدث؟ ولماذا تحدث؟ وما هي نتائجها؟ وما هي أساليب معالجة نتائجها؟ وكيف يمكن منعها من الحدوث مجدداً؟ لخرجنا بقائمة طويلة من أنواع نمطية للفساد تحدث بتكرار وفي كثير من الجهات باختلاف طبيعة أعمالها بشكل يصعب معه، أو قد يستحيل أحياناً، علاج كل حالة بشكل مستقل، في إطار زمني مناسب، وفي ظل محدودية الموارد وضمن مفهوم الفاعلية (ميزان التكلفة والمنفعة).
لذا، ففي اعتقادي أن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد يجب أن تضطلع هي أو أن ينبثق منها جهاز استشاري على أعلى مستويات الكفاءة والتأهيل؛ لكي يعتني باقتراح ومراقبة تطبيق برامج التطوير التنظيمي للأجهزة الحكومية بوصفه خطوة رقابية أساسية لمكافحة وتحجيم ومنع أنواع نمطية كثيرة من أنواع الفساد الإداري والمالي لتتفرغ الهيئة بدورها لتصميم برامج متخصصة لمكافحة أنواع الفساد اللانمطي أو المعقد الذي غالباً ما ينشأ بتواطؤ جهات عدة ضد التنظيم نفسه.
التطوير التنظيمي رغم تشعبه وتعدد أوجهه وأركانه إلا أنه يشمل بشكل رئيس تطوير إجراءات وسياسات العمل وتوحيدها، وتطوير الموارد البشرية، وتطوير سياسات إدارة المخاطر، والحوكمة، وكذلك تعزيز استخدام التقنية الحديثة في معالجة المعاملات والرقابة عليها. إن هذا البرنامج وإن بدا برنامجاً استراتيجياً طويل المدى وذا تكلفة استثمارية معتبرة لكن العائد المتوقع لذلك الاستثمار قد يكون لا نهائي! وبرامج مكافحة الفساد من خلاله تُعتبر مستدامة. ولقياس أثر ونتائج التطوير التنظيمي على أداء المنشأة وتعزيز أنظمتها الرقابية؛ وبالتالي حماية أصولها، يمكننا النظر إلى أداء المنشآت التجارية المتطورة، سواء في القطاع المصرفي أو الطيران مروراً بالمنشآت الضخمة في قطاع البتروكيماويات والنفط ومقارنة مستوى الكفاءة في تحجيم مكامن الفساد وتجنب نتائجه في تلك المنشآت بالمؤسسات العامة والمنظمات الحكومية. إن التنظيم لا يعتبر المسار الأكثر فعالية لمكافحة الفساد وإضعاف بيئته فحسب بل يمتد أثره ونتائجه لتحقيق الكفاءة في الأداء؛ وبالتالي تحقيق الأهداف على مستوى المنظمة كله.
في رأيي أن العلاقة عكسية تماماً بين الحجم المتوقع للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومستوى التعقيد والتكلفة لبرامجها التي تتبناها وبين مستوى ودرجة التطوير التنظيمي في الجهات التي تعنى بمراقبتها الهيئة؛ فكلما كان التنظيم متهالكاً ومتقادماً زادت احتمالية ومخاطر الفساد في المنظمة؛ وبالتالي ينعكس ذلك على حجم ومستوى تعقيد برامج وإجراءات الهيئة في كشف ومعالجة آثار ذلك.
ختاماً.. كلنا أمل وثقة بنجاح الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في تحقيق أهدافها المباشرة وغير المباشرة، وأن تنعكس استراتيجيتها وبرنامج عملها إيجاباً على أداء الجهات الحكومية بشكل يلمسه المواطن.
متخصص مالي وإداري
Muzainia@gmail.com