اتصل بي أخ عزيز، وروى لي أنه وظَّف لديه عدداً من الخريجين لتحقيق متطلبات النطاقات، وأنه قابل ما يزيد عن 30 شاباً لشغل 5 وظائف، وأنه غاضب غضباً شديداً على أساتذة الجامعات الذين يتركون هؤلاء الشباب يتخرّجون من تحت أيديهم وهم في غاية الضعف علمياً، كان يتحسّر على هؤلاء الشباب الذين يحملون شهادة جامعية ولا يستطيعون منافسة أجنبي لا يحمل الثانوي بما لديهم من علوم ومهارة. طلب مني هذا الصديق إثارة الرأي في هذا الشأن، فحاولت أن أعتذر بحجة أن هذا الموضوع طرق حتى بات أرق من جلد الجاعد (جلد ضأن يطرق ليسترق)، ولكنه أصر إصراراً أذهب حيلتي، فبت أفكر كيف أكتب في هذا وأنا قد مللت من الحديث فيه، فما بالك بالكتابة، ومنذ أيام كنت في البحرين في مهمة عمل وعند باب الفندق الفخم جداً، لم أتبين الاختلاف بين ممر السيارات ومستوى الباب لكون الرخام الأسود سائداً فعثرت ووقعت على وجهي، وتبيَّن لي بعد ذلك أنني لست الأول ولن أكون الأخير، وبعدما عدت اتصل بي موظف بإحدى شركات الاتصالات ليقول لي إن هاتفي سيقطع خلال 48 ساعة إذا لم أسدّد مبلغاً كبيراً، ذكر أنه كان نتيجة فتح خدمة تجوال البيانات وأنا في البحرين، في هذه القصص مشترك واحد هو اللا مبالاة بكل شيء، مستقبل الناس، حياتهم، وأموالهم.
اللا مبالاة هي ظاهرة باتت تحكم كثيراً من التعاملات بمجتمعنا، ولا أجد لذلك سبباً إلا أن يكون فساد الذمة، وفساد الفكر، وفساد المسؤولية، فلو رعى الأستاذ ذمته لما ترك الطالب الغر يتخرّج من تحت يده وهو غير قادر على مواجهة الحياة، أين هو من الطير الذي يرعى صغاره ولا يدفعها للطيران وهي غريزتها إلا بعد أن يتأكّد من تمام ريشها، أنقول إن الطير أرعى ذمة من هؤلاء المدرسين، وفساد الفكر لدى من يرى الناس تقع أمامه وفي كل مرة لا يتكلّف إلا بتحمد السلامة وهو قادر على وضع تعديل يكفي الناس خطراً محدقاً، أما مدير عام شركة الهاتف التي تجني البلايين ويحشو جيبه من ذلك ملايين مكافأة لأدائه الذي لم يتحقق لأنه أجاد وضع النظام وحفز الموظفين على إجادة خدمة العملاء، بل لأنه صمت على غش العملاء ولم يجتهد في وضع تنظيم يبيّن لهم تسعيرة الخدمة إن هم أرادوها، وهو يستطيع بما لديه من تقنية أن يفعل ذلك، الفساد في الذمة والفكر والمسؤولية لا تجعل اللا مبالاة جزءاً من السلوك المؤسسي إلا إذا توفر لها بيئة مساعدة تنميها، تلك البيئة هي ضعف المحاسبة الحقوقية، فالتشريع في كثير من الجوانب ضعيف وغير مقنن ويفتقد للآلية في المعالجة وبطء الحسم إن وجد، فمتى حاسبت جامعة أو وزارة التعليم العالي أو ديوان المظالم أستاذاً لأن شهادته مزوَّرة، أو لأنه أخل بواجباته كأستاذ، ومتى حمّل مرفق مسؤولية ضرر وقع لمواطن، نتيجة سوء صيانة أو سوء إرشاد، فالطريق الذي أودى سوء صيانته بحياة فتيات حائل مسؤولية من؟ وهل تمت محاسبة المتسبّب؟ كما أن شركات الاتصالات تقطع وتقاطع وتمرح وتسرح في حقوق الناس ومرجعيتها المتمثلة بهيئة الاتصالات وتقنية المعلومات لم تعلن إجراءً واحداً بحق تلك الشركات رغم آلاف الشكاوي، بل تجادل في شهادة حسن السيرة والسلوك لتلك المؤسسات، هذه هي البيئة التي تربي وتطعم اللا مبالاة، حتى بات إصلاح هذه البيئة تحكمه اللا مبالاة نفسها، فبتنا في لا مبالاة مركبة أشبه بكومة شباك الصيادين بعد العاصفة.
مقالي هذا ستذريه رياح الإهمال كما ذرت مئات المقالات قبله، فنحن الكتّاب نحتمل لوم الناس ونقل همومهم وشكواهم لصدر الصحف لعلها تشعل في نفس مسؤول شعلة الاهتمام والنخوة ورعاية الأمانة التي عهدها من ولي الأمر، وعندما لا يحدث ذلك، نقول وا أسفاً على قول لم نقله، شعراً أو نثراً، فربما كان ذلك أجدى.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail