لا أنسى الألم والغصة التي كان يحدثني صاحبي بها وهو يحكي قصته مع شخصية معتبرة أهداها إنتاجه الفكري؛ لتشغل حيزاً في بيت ذلك المسؤول، ثم يُفاجأ بأن ذلك المسؤول قد أهدى إنتاجه لمكتبة صغيرة
تحت الإنشاء في مكان ما، والكارثة أنه لم يجد مع إنتاجه إلا كتب الطبخ وبعضاً من قصص الأطفال، وكان عزائي له «أنت الملوم لأنك رفعته إلى مستوى لا يستحقه؛ فلا تتوقع منه إلا هذا الانحطاط الثقافي والأخلاقي». كان متألماً مثلما تألم كثيرٌ من شرفاء الأمة ومفكريها على إحراق ثائر مجنون المجمع العلمي المصري، ولم يدرك ذلك المجنون أنه أحرق مجمعاً فيه كتاب واحد فقط بمليار دولار، ولا أحد يعرف قيمة الكتاب إلا من احترف المهنة والخبرة بتاريخ الشعوب، وأدرك قيمة الأشياء الثمينة التي أصابنا عمى الألوان وهوس النرجسية بتجاهلها تماماً..
صدقاً، الحديث ذو شجون موجعة هذه المرة حينما تستحضر الذاكرة ما قام به الطاغية هولاكو حفيد جنكيز خان، الذي استباح بغداد في 10 شباط 1258م حينما استسلمت بغداد للمغول؛ فحدثت فيها المجازر والنهب والاغتصاب والدمار.. فدمروا مكتبة بغداد التي تضم الآلاف من المخطوطات في الفلك والطب والتاريخ، وقيل آنذاك إن الكتب التي أُلقيت في نهر دجلة جعلت الماء أسود. والأكثر وجعاً أننا الأمة الوحيدة التي باعت فكرها المقدس على الرصيف أمام المجمعات والمولات والمساجد، وربما على ظهور سيارات الخردة، وأننا الأمة الوحيدة التي لف جزاروها اللحم والعظام المجروش بورق مخطوطاتها في لحظة غياب تاريخية للمسؤولية؛ ما أفرز ثقافة الأسواق والمطاعم؛ لنختصر الحضارة الإنسانية بمحتويات المعدة والجسد، ونحرق الذاكرة. ولم يقتصر الأمر على هذه الهزيمة الثقافية بل تجاوزه إلى ما يعانيه الباحثون والمفكرون والمبدعون من التهميش والمؤامرات في عمادات البحث العلمي والدراسات العليا، التي فتحت مصراعيها للمزورين والمستعينين بغيرهم؛ ليتحولوا إلى محكِّمين لأبحاث وباحثين أرقى من مستوى تفكيرهم، وكأن قدر هذه الأمة ألا تتعافى من زهايمر التخلف والنكوص؛ ما ينذر بوقوع كارثة أخلاقية وأزمة في ضمير بدأ عقلاؤه يؤمنون بعبارة (كل شيء حقيقي يعيش غربة)؛ لأن الواقع يبحث عن العلم والنظرية من أجل الترف وليس الضرورة، حتى أصبحنا نشاهد إعلانات من أجل التسويق للشهادات العليا من مكاتب لا تكاد ترى بالعين المجردة؛ لتثبت الأيام أننا ما زلنا مستمرين في تلك الحالة الذهنية التي أوصلت الأمة ذات يوم إلى أن المثقف يدفع مبالغ طائلة في مخطوط لا يعرف محتواه ولا يسبر أغوار فنه؛ لأنه يسد فراغاً في مكتبته التي كانت أداة من أدوات (البرستيج)؛ ما انعكس سلباً على مسيرة الحضارة والتكوين الثقافي..
تابعت النيران وهي تلتهم المجمع العلمي المصري بعدما ألقى شاب مجنون ومهووس قنبلة مولوتوف عليه، وهو لم يدرك ذلك الأرعن لحظتها أنه طمس هوية أمة كاملة مساء الجمعة (16 كانون الأول- ديسمبر 2011) بإحراق المبنى الأثري الذي يقع في نهاية قصر العيني، ويطل على ميدان التحرير. وقالت صحيفة «الأخبار» الحكومية إن حريق المجمع العلمي أدى إلى «تدمير 200 ألف كتاب نادر، أهمها كتاب وصف مصر»، الذي طلبت الولايات المتحدة الأمريكية شراء نسخته التي تحولت إلى رماد بمليار دولار قبل خمسة عشر عاماً، وأي نجاح بعد ذلك لثورة أكلت أبناءها وشعبها وذاكرتها وتاريخها ومجمعها العلمي الذي أنشأته الحملة الفرنسية عام 1798 بقرار من قائدها نابليون بونابرت.
جن العالم وهو يراقب الحريق يلتهم المجمع على الهواء مباشرة، وقد نقلت بوابة الأهرام الإلكترونية عن الأمين العام للمجمع العلمي المصري محمد الشرنوبي قوله إن الحريق «أتلف كل محتويات المجمع تماماً التي تمثل تراث مصر القديم.. كل المؤلفات والمقتنيات منذ عام 1798 حتى اليوم أتلفت تماماً من جراء الحريق.. احتراق هذا المبنى العريق بهذا الشكل يعني أن جزءاً كبيراً من تاريخ مصر انتهى». ونقلت الصحيفة عن شلتوت قوله: «إن المجمع يضم وثائق نادرة وكتباً تؤرخ للعلم من أيام الحملة الفرنسية، ولتاريخ العلم الحديث». وأضاف: «الخوف أن تصل النيران إلى الجمعية الجغرافية التي تحتوى تاريخ اكتشاف منابع النيل، كما أن المجمع يضم أول تصنيف للنباتات المصرية، والنباتات التي تنمو في الصحراء، وكذلك للحيوانات البرية والمستأنسة». من جانبه وصف عضو المجمع الدكتور يحيى الجمل، في حديث للصحيفة المصرية، «حريق المجمع العلمي المصري بالإجرام في حق مصر؛ فهو يضم وثائق نادرة في العالم». والمجمع يضم شُعَباً مختلفة كالرياضيات والفيزياء والطب والزراعة والتاريخ، وفي عام 1918 أصبح مهتماً بالآداب والفنون الجميلة وعلم الآثار، والعلوم الفلسفية أيضاً. ويُصدر مجلة سنوية ومطبوعات خاصة. وبكل أسف تشهد الثورة والثوار على أننا - وليس الاستعمار - غزاة أنفسنا، وبرابرة تاريخنا، ومصاصو حبرنا، وملتهمو مخطوطاتنا، وقتلة أستاذتنا وعلمائنا ومفكرينا، وسارقو ترابنا، وربما نحن الأمة الوحيدة في التاريخ الإنساني التي تنتقم من نفسها احتراقاً وتسطو على مقدساتها اعتقاداً منها أنها تنتقم من حاكم وقائد لن يخلد على كرسيه، ولو دلت دودة الأرض على موته بعد أكل منسأته..
لقد آمنت بضرورة تصدير آثارنا ومخطوطاتنا وكنوزنا الثقافية إلى متحف اللوفر وغيره؛ لأننا غير مؤهلين على الأقل في هذه الحقبة التاريخية لحمايتها ولو من أنفسنا ومن ثوارنا ومن مجانيننا الذين لم يتركوا مكاناً أثرياً إلا وحفروه بمعاولهم، وهشموا تماثيله النادرة وفسيفساءه التي لا تقدَّر بثمن؛ لذلك لا نعجب إن كانت هذه الكنوز قد وقفت على أبوابها شياطين الرصد لحمايتها من شر شياطين الإنس لتتأكد منطقية طلب محمد إبراهيم وزير الدولة لشؤون الآثار في بيانه أنه سوف يخاطب السفير الفرنسي بالقاهرة «ليطلب من حكومة فرنسا المساهمة» في ترميم المبنى لإعادته إلى حالته، ولكن من يعيد لنا حالتنا الثقافية الحقيقية في ظل دعوة بعض الجماعات المحسوبة على الإسلام في مصر وغيرها بضرورة تحجيب أبي الهول باعتباره «صنماً» في صورة لا تختلف عما قامت به جماعة طالبان المتشددة في أفغانستان حين فجرت تمثالين أثريين لبوذا في باميان عام 2001 بزعم أنها أصنام تدعو إلى الكفر.
حراك ليس ثقافياً، وثورات تضرب الإنسانية في صميمها ستعود بنا إلى عصور الانحطاط والظلام والرجعية.. والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com