|
الجزيرة - أحمد القرني
استمرارا لمنهجيتها الساعية إلى استقطاب أحدث الإمكانات الطبية التي توصلت إليها أساليب العلاج ومراكز البحث في مختلف أنحاء العالم ، فقد أدخلت مدينة الملك فهد الطبية جهاز وبرنامج العلاج بالموجات الصوتية عالية الكثافة «الهايفو» لتسجل بذلك الاستخدام الأول في منطقة الشرق الأوسط لهذه التقنية التي تعد مرحلة متقدمة من تطور علاج وتشخيص الأورام، حيث يأتي ذلك ضمن أهداف المدينة الطبية في تطوير الجانب العلاجي والحصول على أحدث التقنيات العالمية في هذا المجال و دمج واستخدام التقنيات الجديدة لخدمة أكبر شريحة من المستفيدين وفق أسهل الطرق العلاجية والتشخيصية وأكثرها دقة وأقلها ضررا جانبيا.
بنظرة تاريخية لنشأة هذه التقنية ، سنعرف أنها بدأت فعليا في الصين التي طورت هذا الشكل من أشكال التقنية العلاجية قبل أن يأخذ في الانتشار في كثير من دول العالم المتقدمة كالولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وبعض دول أوروبا واليابان وكوريا وماليزيا وروسيا ، وإن كانت الكثافة العالية في استخدام هذه التقنية مازالت تتركز في الصين التي طورتها تقنيا وجعلتها من أشكال العلاج المعتمدة ، وهناك مراكز أخرى تصنع هذه التقنية كالولايات المتحدة.
الدكتور مشبب علي العسيري استشاري الأورام والعلاج بالأشعة ورئيس قسم العلاج بالأشعة في مركز الأورام بمدينة الملك فهد الطبية، تحدث عن برنامج العلاج بالموجات الصوتية المكثفة الموجهة أو مايسمى بتقنية الهايفو، موضحا أنه عبارة عن جهاز طبي حديث يستخدم الموجات الصوتية بتقنية تستطيع تكثيفها وتوجيهها إلى بؤرة محددة لرفع حرارة الخلايا وبالتالي القضاء عليها ، وأضاف «من المعلوم أن الموجات الصوتية استخدمت في التشخيص لعدة عقود وهي وسيلة فعالة في ذلك وتتميز بسهولتها وأمانها التام على الأنسجة التي تمر من خلالها ولهذا تستخدم في الكشف على الحوامل و الأطفال دون أن يكون لها تأثير بيولوجي على الأنسجة بخلاف الأشعة السينية التي قد يكون لها بعض الضرر، استخدمت هذه التقنية لعقود في الأشعة التشخيصية، والجديد في الأمر هو استخدام الموجات الصوتية كوسيلة علاجية ..هذه التقنية تقنية حديثة وهناك نتائج مشجعة لها»
ويشرح د. العسيري اعتماد هذه التقنية على تركيز الموجات الصوتية في بؤرة محددة مشبها ذلك بتركيز اشعة الشمس باستخدام العدسة على منطقة معينة، مما يؤدي إلى ارتفاع حرارة شديد يصل إلى تحول المادة والاحتراق، مشيراً إلى أن هذه الفكرة كما كانت ملهمة لأرخميدس في العصور القديمة بتسليط اشعة الشمس إلى سفن العدو مما أدى إلى احتراقها ، وهذا ما ألهم بدوره أحد العلماء الصينيين الذي استطاع تركيز الموجات الصوتية إلى درجات حرارة تصل إلى 85 درجة مئوية تؤدي إلى مايشبه الغليان في الأنسجة ، حيث يصبح هذا الاحتراق والتلف الذي ينتج عنه مطلباً للقضاء على الأورام سواء كانت حميدة أو خبيثة.
وبحسب د. العسيري فـ(الهايفو) ليست تقنية حديثة حيث بدأت أبحاثها منذ 1940 م واستمرت في الخمسينات والستينات، وأجريت أول الأبحاث في جامعة الينوي في الولايات المتحدة وقد كانت المحاولة في البداية لاستخدامها في بعض الاضطرابات العصبية ولكن التطوير الفعال لهذه التقنية جاء من الصين وتحديدا من شركة شونك كنق هايفو والذين استطاعوا عمل الجهاز للعلاج بالموجات الصوتية، وحصل على الاعتراف الأوربي عام 2005 وقبلها الأمريكي عام 2004م ويستخدم بشكل واسع في آسيا. ويضيف الدكتور العسيري «بدأ الاهتمام بهذه التقنية في المملكة بعد أن اطلع عليها الدكتور عبدالله العمرو المدير العام التنفيذي لمدينة الملك فهد الطبية، حضر المؤتمر الأول لعلاج بالموجات الصوتية في تشون شي في الصين واطلع على التقنية والتقى بالمخترع ورئيس الشركة المنتجة لهذه التقنية ومن ثم بدأ الاهتمام وجلب الجهاز للمملكة كونها من التقنيات الواعدة لعلاج الأورام عموما والسرطان خصوصا. وتم شراء الجهاز وتركيبه في المدينة الطبية في نهاية عام 1431 هـ وبعد تجهيزه تم تدريب طاقم طبي مكون من د. مشبب العسيري والدكتور أحمد عطيف استشاري الفيزياء الطبية والمهندس بندر الزهراني أخصائي الأجهزة الطبية ومنى حسين رئيسة التمريض و»زو» الممرضة، قضى الفريق فترة طويلة في الصين للتدرب على الجهاز ومن ثم تم البدء في تشغيل الجهاز واستخدامه طبياً في منتصف عام 1432هـ من خلال افتتاح وزير الصحة الدكتور عبدالله الربيعة وقد شارك معاليه في علاج إحدى المريضات بورم الرحم الليفي، وتم علاج كثير من المرضى وقد بلغ عدد المريضات اللاتي تم علاجهن حوالي 15 مريضة وكانت النتائج مشجعة للغاية وهناك استجابة مميزة للعلاج، المريضة عادة تنوم لمدة يوم في المستشفى وذلك لتحضيرها للعلاج وإعطائها تغذية خاصة وعمل ترتيبات معينة ، وبعد ذلك تبدأ الجلسة وتستغرق 3 إلى 4 ساعات يتم فيها تحديد مكان الورم ومن ثم تسليط الموجات الصوتية عليه. النتائج نقوم بعمل تصوير الرنين المغناطيسي قبل العلاج بالموجات الصوتية لمتابعة حالة المرضى، وتعرض الصور لاحقا الورم قبل وبعد العلاج ومن المعتاد أن يستمر تقلص الورم خلال السنتين التاليتين للعلاج.
ويشير العسيري إلى أن المريضات تحسنت الأعراض لديهن مثل النزيف والم البطن وطول فترة الدورة الشهرية، كما ذكر أن إحدى المريضات وكانت شابة لم تتزوج قد تعافت تماما من ورم ليفي ثم تزوجت بعد العلاج وهي الآن تنتظر مولودها الأول بحمد الله. وأضاف «هذا البرنامج برنامج طموح وسنقوم ان شاء الله بعرض نتائج العلاج في المؤتمرات المحلية والعالمية لنشر الفائدة من هذه التقنية العلاجية المميزة، يوجد اهتمام عالمي كبير بالهايفو وهناك تطوير مستمر لها وهناك جمعيات عالمية مثل الجمعية العالمية للأشعة العلاجية التي أسست عام 2001 لتسريع التطور في هذا المجال، المنظمة العالمية للعلاج بالموجات الصوتية والجمعية العالمية للجراحة بالموجات الصوتية، هذه الجمعيات كلها تعمل على تطوير الأبحاث والعلاج»
ويرى العسيري أن ميزة هذه التقنية أنها تمكن الطبيب من أن يشاهد التلف مباشرة أثناء العلاج عن طريق الموجات الصوتية ، حيث أن جهاز الهايفو لديه القدرة أن يكون علاجيا وتشخيصيا في آن واحد، ويتميز أيضا أن الحرارة بعد أن تتكون في المنطقة ينتقل إلى مناطق أخرى وهذا شيء مطلوب في العلاج..مضيفا في سياق شرح آلية استخدامه هذه التقنية «طريقة عمل الجهاز بأن يوضع المريض بشكل محدد بحيث يمكن مشاهدة المنطقة التي تحتاج إلى إزالة أو إتلاف ، يتم بعد ذلك تحديدها بدقة عن طريق الموجات الصوتية وفي بعض الحالات عبر التصوير بالرنين المغناطيسي، ثم يبدأ عمل الطبيب عن طريق تحديد المكان ومعرفة كمية العلاج المطلوبة وعمل اختبار مبدئي لتفاعل الجسم مع الموجات الصوتية العلاجية ومن ثم يبدأ عملية إتلاف الورم المحدد، هذه التقنية تتميز بأنها غير جراحية ولا تحتاج إلى فتح المنطقة المصابة بسبب أن الموجات الصوتية تخترق الأنسجة إلى المنطقة المحددة دون أن تتعرض المنطقة إلى تلف وإنما يكون التلف في بؤرة العلاج».
على الصعيد ذاته، تستخدم هذه التقنية في علاج العديد من الأورام وهي في طور التطوير والأبحاث المستمرة ، إذ إن هناك بعض الاستخدامات التي اعتبرت كشكل من أشكال العلاج المعتمدة مثل علاج أورام الرحم الليفية المعتمدة منذ 2004 م في هيئة الغذاء والدواء الأمريكي وفي أوروبا كعلاج مقنن.. وفي هذا الصدد يقول د. العسيري«هي أسلوب ممتاز لعلاج أورام الرحم الليفية حيث لا تحتاج المريضة إلى عملية جراحية ولا يتم استئصال الرحم بل يتم علاج الورم الليفي موضعيا دون إجراء عملية جراحية وتؤدي هذه في أغلب الأحيان إلى إزالة الأعراض التي يسببها الورم الليفي ، فقط 20 % من المريضات بعد العلاج يحتجن إلى علاج آخر، وهذه نسبة ممتازة حيث إن الأورام الليفية قد تحتاج إلى عمليات جراحية تصل أحيانا إلى إزالة الرحم ، وبالتالي فاستخدام هذه التقنية في علاج الأورام الليفية يعتبر فتحا في الطب وهو مهم جدا خصوصا للسيدات اللاتي يحاولن المحافظة على الرحم تحسبا لإمكانية الحمل بإذن الله تعالى، لهذا فهي أسلوب مميز يترك مجالا لهذه الاحتمالات ويجنب المريضة اللجوء إلى عمليات جراحية قد تؤدي لمشكلات مستقبلية».كما يشير الطبيب في مركز الأورام بمدينة الملك فهد الطبية إلى أن هذه التقنية استخدمت في علاج أورام البروستاتا منذ فترة طويلة ومازالت في طور الأبحاث ولكنها لم تعتمد علاجا مقننا إلى الآن لأنها في طور البحث العلمي وإن كانت تحقق نتائج مشجعة كما يقول الدكتور العسيري الذي يشير إلى أن الجهاز المستخدم في البروستاتا هو جهاز أبسط بكثير من الهايفو ولكنه يستخدم نفس التقنية تقريبا ، مضيفا في محور آخر « القضية الأهم لدينا في مركز الأورام بمدينة الملك فهد الطبية استخدام الهايفو في علاج السرطان، فالسرطان كتلة من الخلايا الخبيثة التي تحتاج إلى إزالة، والإزالة ليست دائما ممكنة، فهذا يرتبط بوضع المريض ومكان الورم ونوعيته، لذلك نهدف من جلب هذه التقنية إلى استخدامها في بعض الأورام القاسية التي لا تستجيب للعلاج المعتاد، بالإضافة إلى تطوير الأبحاث العلمية لاستخدام هذه التقنية في علاج السرطان.. وهو استخدام مقتصر حاليا على الصين وليس هناك أبحاث كبيرة في هذا المجال خارج الصين، لذلك نتمنى بالتعاون مع الصين توسيع رقعة استخدام الهايفو لعلاج الأورام السرطانية المختلفة». وفي هذا الصدد انضم إلينا في مركز الأورام بمدينة الملك فهد الطبية الدكتور فارس مياحاستشاري الفيزياء الطبية وخبير الهايفو من جامعة أكسفورد وقد بدا في عمل أبحاث علمية لتطوير هذه التقنية .
وذكر د. العسيري أن هناك أبحاثا سابقة حول استخدام الهايفو في علاج أورام العظام والثدي والكبد والبنكرياس والكلى، فضلا عن دراسات مستمرة في هذا المجال بشكل عام ، كما أكد على إمكانية استخدام تقنية الهايفو مع الأساليب العلاجية الأخرى مثل العلاج الإشعاعي أو الكيميائي أو الجراحي، إضافة إلى استخدامات جديدة للهايفو في إيصال الادوية الكيميائية إلى مناطق كانت تقاومها في السابق وعن طريق تسخين بعض الأنسجة مما يؤدي إلى تكثف العلاج فيها وبالتالي زيادة فرصة الاستجابة للعلاج الكيميائي.كما أن هذه التقنية تستخدم أيضا بشكل محدود في علاج خفقان القلب وبعض الاضطرابات الكهربائية في القلب عن طريق قساطر مصممة خصيصا لإيصال حرارة معينة إلى المناطق التي تسبب الخفقان.
ويضم فريق العلاج بالهايفو فريقا طبيا مكونا من استشاري علاج الأورام (د. مشبب العسيري) واستشاري طب النساء والولادة (د. مأمون العوض) واستشاري الفيزياء الطبية (د. فارس مياح و د. أحمد عطيف ) واستشاري التخدير برئاسة د .خالد الشعيبي وفريق التمريض برئاسة الأستاذه منى حسين مديرة التمريض بمركز الأورام و سارة العنزي و زو واسلام ورمله ) والهندسة الطبية (المهندس بندر الزهراني) .
وقد ختم د. العسيري حديثه بتوجيه الشكر إلى الله سبحانه وتعالى والدعاء الصادق لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده وحكومته الرشيدة لتوفير هذه التقنية ولوزير الصحة الدكتور عبدالله الربيعة لاهتمامه الخاص بها والدكتور عبدالله العمرو الذي كان وراء البدء في برنامج العلاج بالموجات الصوتية عالية الكثافة والدكتور عبدالعزيز الحميضي مدير مركز الأورام الذي كان له دور كبير في جلب هذه التقنية إلى المملكة لتكون إضافة نوعية في الخدمات الصحية .