|
ثمانية وأربعون عاماً مضت لي في الوظيفة الحكومية، عاصرت فيها أطوارا وظيفية ومتغيرات كثيرة، وعملت مع مسؤولين عدة، وانتقلت بين إدارات متنوعة، وها أنا على أبواب التقاعد بعد استكمال المدة النظامية مستكملاً حقوقي، وغير طامع في أكثر مما حصلت عليه، راجياً أن أكون بذلت ما يمكن في القيام بالواجب الوظيفي، ثم إنني هنا أود توثيق مرحلة وظيفية مهمة عشتها ولم يدفعني إلا ما اعتبره واجباً علي أخشى أن يحول بيني وبين كتابته حائل، فكانت هذه الأسطر تحكي معالم مرحلة امتدت سبعة وثلاثين عاماً صحبت فيها رجلاً بل جامعة تتنوع فيها المعارف والخبرات العملية منها الكثير، في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية عندما كان يشغل وكيلاً لها، ثم في المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية عندما كان محافظاً لها، ثم في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية مرة أخرى عندما كان وزيراً لها، وأخيراً في وزارة الخدمة المدنية كوزير لا يعجبه أن يكتب عنه أو تسلط عليه الأضواء، بل ينبذ التمدح والتملق، كما يشهد بذلك كل من عرفه عن قرب، فما يهمه هو أن يعمل ويعمل بصمت في جهد دؤوب لا يكل ولا يمل، مما كان له الأثر على صحته، لكنه يمضي رغم ذلك في مسؤولياته الجسام بإخلاص وتفان عجيب يعجز عنه من حوله، ولا أذكر خلال هذه المدة الطويلة مع ما لديه من صلاحيات أنه حاول تجاوز نظام أو الالتفاف عليه بل كان يحثنا دوماً على الالتزام بالأنظمة مع كل أحد ويمتثل هو هذا السلوك مع الخاصة والعامة بشكل واضح حتى أنه في حالات كثيرة يعتذر عن أقارب وأصدقاء بلا تردد لأجل النظام ولا شيء غير النظام، وهذا يعكس جزءاً من شخصية تعودت على الانضباط في التعامل وفق الأنظمة، والالتزام بها في الدوام والعمل، والدقة في المواعيد حتى لا يكاد يتخلف عن موعد أو يتأخر، وهو مع هذا يحب الشفاعة لمن يطلبها، ويبذل الخير للمستحق ما لم يتضرر بذلك الغير - كما أنه مهما اختلفت معه فلا يتأثر بذلك العمل أو التعامل ولا يمكن أن يظلمك بسبب ذلك، وقد وقفت على مواقف عديدة من هذا، وكنت أعجب من تناسيه للخلاف والتغافل عنه وإنصافه بلا تكلف مع الآخرين مهما اختلفوا معه.
ومما يعرفه القريبون منه الصدق والشفافية والصراحة التي تتسم بها شخصيته، بل إن معيار القرب والبعد منه هو ذلك لا النفاق والمظاهر، وباعثه لذلك هو الوازع الديني الذي يتبين في جوانب كثيرة في حياته منها محافظته الدائمة على الواجبات الدينية، وحرصه على العلاقة الاجتماعية لا سيما مع أقاربه وأرحامه الذين يتأكد صلتهم، إنه باختصار قامة كبيرة حقاً، إنه معالي الأستاذ محمد الفائز وزير الخدمة المدنية السابق، ولولا ما أعرفه من امتعاضه لمثل هذه الكتابات لواصلت الحديث عن جوانب كثيرة بتفاصيلها التي تخفى على كثير ممن يعرفه فضلاً عمن لا يعرفه، ولكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق، والله من وراء القصد.
(*) المستشار والمشرف العام على مكتب وزير الخدمة المدنية