الإعلام لم يعد الإعلام الذي عرفه الناس قبل عقود وسنوات.. ولم يعد قناة رسمية، أو صحيفة شبه رسمية، أو مصدر رسمي.. ولم يعد رأيا واحدا يسطو على كل الآراء ويصادر الآراء الأخرى.. لم يعد الإعلام إعلاما بالمفهوم التقليدي الذي تربينا عليه وتشربنا به وعشناه طيلة السنوات الماضية..
لم يعد الإعلام نشرات أخبار تعدها الوكالة الوطنية للأخبار، وترسلها لإدارة أخبار التلفزة الرسمية ليقرأها مذيع لا يستطيع أن يغير حرفا منها.. ولا تستطيع إدارة بأكملها أن تغير سطرا منها.. نعم لم يعد الإعلام هو إعلام الوكالة الرسمية والتلفزيون الرسمي والصحيفة الرسمية.
تغيرت الظروف، وطرأت مستجدات تقنية وإعلامية وبنيت فضاءات جديدة وتبدلت مفاهيم وتطورت نماذج ولم يعد النموذج الرسمي هو الوحيد في فضاءات المواطنين، ومساحات الحوار، ولم يعد المصدر الوحيد الذي يستقي منه الناس والجمهور معلوماتهم، ولم يعد الإعلام بمؤسساته التقليدية هو المدرسة التي يتغذي منها الناس فكرهم وسلوكياتهم.. فقد دخلنا مرحلة نوعية جديدة، وحالة عالمية ليست مسبوقة.. فقد انتقلنا من الإعلام الخطي إلى الإعلام التفاعلي.. فالإعلام الخطي كان يتجه من المرسل إلى الجمهور في خط واحد، وأشبه ما يكون بتوجيهات ونصائح وإرشادات عن كيف تفهم الرسالة؟ وكيف تفسرها؟ وكيف تستقبلها؟ وما يبنغي أن تفعله تجاهها؟ أما الإعلام التفاعل فقد ألغى الخطية والرأسية في الإعلام، واستبدلها بعلاقات أفقية بين المصدر والجمهور، وأصبح الجميع يعمل في دائرة واحدة. تحول المستقبل من الجمهور إلى المرسل الإعلامي، وأصبح المرسل مستقبلا في كثير من الأحيان.
الحالة العالمية أصبحت هي النموذج الوطني البديل، وبات النموذج الوطني رغم وجوده وحضوره المستمر متأخرا في الوصول، وضعيفا في التأثير، ونادرا في المتابعة.. ولهذا فهو يقف خلف الإعلام رغم انه إعلام.. والحالة الإعلامية هي ثورة جديدة ليس فقط في الإعلام بل في الاتصال قلبت موازين الإعلام الوطني، وأطلقت مساحات جديدة من الفكر والتداول، وبنت هياكل نوعية في إدارة الإعلام والفكر والثقافة. واستبدلت أوعية بأوعية، ونماذج بنماذج، وثقافة بثقافة..
الإعلام الوطني لا يزال يقف مكانه، رغم أنه تحرك إلى الأمام قليلا، ولا يزال متمسكا بثوابته التقليدية في الممارسة، رغم انه نثر في عيون الجمهور جملا جديدة، وبرامج بأسماء مستعارة، ومضامين تبدو مختلفة.. ولكن على الرغم من هذه القنوات وهذه البرامج وهذه الكوادر، إلا أن فلسفة الإعلام لم تتغير، وفكر الممارسة التقليدية لم يتحرك، ومنظور الجمهور هو كما كان في الماضي.. والساحات التي كان يناور عليها ومنها الإعلام الوطني هي ذاتها التي يناور عليها اليوم وغدا..
ما يحتاجه الإعلام الوطني في أي دولة عربية هو أن يبدأ من البدايات ويطرح الأسئلة الأساسية في الإعلام.. فتراكمية الممارسة أدت إلى تبلد المفاهيم، والانشغال بروتينية العمل أدى إلى طوي الفكر الاستراتيجي للإعلام.. وأصبحنا نعيش الماضي كثيرا، ونتجاوز المستقبل.. فالأسئلة الأساسية تكمن في حوار علمي، مدروس يؤسس لفكر إعلامي مستنير.. ويمكن في هذه العجالة المقالية أن نشير إلى تحديد أن الأهداف التي تعمل عليه الأجهزة الوطنية للإعلام ليست واضحة، ولم يتم بلورتها في مؤشرات دقيقة.. كما أن أهم نواقض الإعلام تكمن في عدم قياس الأثر، وعدم تتبع النتائج.
ما نحتاجه هو الاحتكام إلى الأهداف الكبرى في المجتمع، ولكن لابد ان تكون هذه الأهداف واضحة.. ويجب ان تحددها المؤسسة والمجتمع، وتكون هذه الأهداف هي صياغات وطنية تتجاوز حدود الممارسات التقليدية.. وتتعاطى مع المستجدات العالمية والظروف الإقليمية.
أن تحديد هدف واحد للإعلام عند سؤال شخص من الممارسين هو من أصعب الأمور التي نتخيلها.. فتعمل كثير من أجهزة الإعلام دون أهداف محددة، وإذا شاءت الظروف أن يكون لأجهزة الإعلام أهداف، فتكون أهدافا تجاوزها الزمن، وتعالت عليها الظروف. ونعلم أن أي منشأة أو مؤسسة أو حتى دولة أو منظمة إذا لم يكن لها أهداف واضحة مبنية على رؤية ورسالة استراتيجية، فلن يحدث هناك تقدم في نجاحات تلك المؤسسات. وتعاني أجهزة الإعلام العربية من تقادم الأهداف إن وجدت، فالجميع يعمل في منظومة الممارسة المتراكمة وليس في إطار الرؤية المتجددة للإعلام.
(*) رئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود
alkarni@ksu.edu.sa