جاءت الأخبار بأنَّ مجلس الشورى قد وافق على إجراء دراسة تقويمية لجدوى السنة التحضيرية في الجامعات السعودية، في خِضم نقاش مجتمعي يدور حول جدواها، يسير في اتجاهين متباينين، أحدهما مع إلغائها، والآخر مع استمرارها.
من حيث المبدأ ينبغي تأكيد أنَّ السنة التحضيرية أداة مهمة لتعريف الطالب بالبيئة التعليمية الجامعية، وتزويده بالمهارات الأساسية اللازمة لحياته الأكاديمية والمهنية في مجال تخصصه، وهي - إلى جانب اختبارات القياس والتقويم - تساعد على الرفع عموماً من مستوى وكفاءة مؤسسات التعليم العالي ومخرجاتها، خاصَّة مع وجود ذلك الخلل المزمن في مخرجات التعليم العام، الناشئ عن ضَعْف بنيته المنهجية، وإدارته، وطرق التدريس والبحث العلمي في كل مراحله، واعتماده على أدوات التلقين والاستظهار وسرد المعلومات، بما لا يسمح في الغالب بإحداث تطبيقات فنية قياسية متقدمة تتسم بدرجة عالية من العدالة والشفافية.
إذن، أين تكمن الإشكالية؟!
الجواب قطعاً في آلية إدارة السنة التحضيرية ومنهجيتها وتطبيقاتها في بعض الجامعات السعودية، التي كان لها الدور الأكبر في إحداث معاناة نفسية واجتماعية لدى بعض الطلاب. وهذا الأمر يتطلب بالضرورة إعادة صياغة أنظمتها وتطبيقاتها، وفق أسسٍ ومنهجية تسمح بتوسيع دوائر منافعها، والتقليل من آثارها السلبية على عموم الطلاب والطالبات.
في تقديري أنَّ إعادة بنائها تتطلب إدخال العناصر والأدوات الآتية:
العمل بمبدأ اختيار التخصص أولاً، وذلك وفق معايير اختبارات القياس والتقويم، والمعدل التراكمي في المرحلة الثانوية. وعلى ضوء ذلك يتم اعتماد منهجية ومقررات السنة التحضيرية، بما يتماهى مع التخصصات المختارة. فالطلاب المسجَّلون في تخصصات الهندسة أو الطب أو الاقتصاد - على سبيل المثال - تُعدُّ لهم مناهج ومقررات تتماهى مع هذه التخصصات، وتُعنى بتقديم جرعات أساسية من المهارات المعرفية المُمهِّدة لدراسة التخصص بعد الانتهاء من السنة التحضيرية.
المعمول به حالياً في بعض الجامعات السعودية خلاف ذلك تماماً؛ إذ تُفرض السنة التحضيرية أولاً قبل اختيار التخصص، ويتم تقسيم التحضيرية إلى مسارين أساسيين: علمي وإنساني، وفي كل مسار جملة من التخصصات المتنوعة، وعلى الطالب اختيار أحد المسارين، ويتوقف اختيار التخصص على جملة من المعايير، منها معدلات النجاح والمقاعد المتاحة في كل تخصص. ومن أبرز عيوب هذه الآلية: حرمان الطالب من حقه في اختيار تخصصه العلمي، وإجباره على خوض ما يمكن تسميته بالمغامرة من خلال هذه المسارات، ولعبة المعدل التراكمي، وفي النهاية قد لا يحصل على مبتغاه، ويتم توجهيه إلى تخصص آخر قد لا يرغبه، إضافة إلى تكليفه بدراسة مناهج ومقررات بجرعات أكثر قد لا يحتاج إليها في دراسة تخصصه، وهذا مما يزيد من العبء الدراسي عليه، وبما لا تدعو الحاجة إليه أصلاً.
إعادة النظر في تركيبة المقررات الدراسية للسنة التحضيرية، وإعطاؤها أوزاناً علمية تأخذ في اعتبارها إشكالية الضَّعْف العام في مخرجات التعليم العام؛ إذ هناك شكوى عامة من صعوبة وتعقيد بعض المقررات الدراسية، وآلية الاختبارات الدورية والفصلية، وهذا - في تقديري - خلاف المؤمل والمطلوب من برنامج السنة التحضيرية؛ إذ يُفترض أنَّها مرحلة انتقالية للطالب من أجواء النظام المدرسي إلى النظام الجامعي، تتيح له أخذ جرعات متدرجة من المهارات الأساسية، بما يخدم برنامج تخصصه، ولا يستدعي الأمر إطلاقاً تحميلها برامج ومهارات وأنظمة تتجاوز أدوارها ووظيفتها، بما يجعلها أداة لعصف آمال وجهود الطلاب من خلال حالات الرسوب وتغيير المسارات والتسرب خارج الجامعات، بكل سلبياتها الأمنية والاجتماعية.
إعادة النظر في ساعات الدراسة اليومية الطويلة نسبياً لجهة اختزالها، بما يناسب القدرة الذهنية والنفسية والاستيعابية للطالب، بما ينعكس إيجاباً على تحصيله الأكاديمي، ونتائجه النهائية.
العناية بحسن اختيار المؤسسات والشركات المتخصصة المُتعاقد معها لتوفير المواد التعليمية، وأعضاء هيئة التدريس، وتشديد الرقابة الإدارية والمالية على مناشطها، عبر آلية محددة تساعد على إجراء عمليات المراقبة والمراجعة الدورية للبرامج المُتعاقد عليها، بما يُحقق المستهدف منها وفق أفضل صورة ممكنة، ووفق معايير الجودة والشفافية، في الأداء وأسلوب العمل، ويحفظ في الوقت نفسه المال العام من التبديد النسبي وسوء الاستخدام، والسلوكيات والمصالح النفعية والانتهازية المحتملة.
على أيَّة حال، إشكالية عدم القدرة الاستيعابية للجامعات السعودية بفعل تداعيات التزايد المُطَّرد في أعداد خريجي المرحلة الثانوية لا تعطي المبرر لإنهاك الطلاب في اجتهادات لا تتيح لهم حياة علمية وأكاديمية فاعلة ومثمرة، تحقق أهدافهم في مستقبلٍ واعدٍ ومنتجٍ بإذن الله.
كلمة أخيرة:
يبدو المستقبل - بإذن الله - أكثر إشراقاً وأملاً، بما يخص دعم وتطوير بيئة علمية خلاَّقة بأدوات ومبادرات وبرامج ومناهج وأساليب متطورة ومتجددة في الجامعات السعودية، بما يحقق احتياجات المجتمع وتطلعاته، ويواكب أداء الجامعات العالمية ووظائفها ومنتجاتها.
من مأثور الحِكم: المَعْرِفَة التي لا نُنَمِّيها كُلَّ يَوْمٍ تَتَضَاءَلُ يَوْماً بَعْدَ يَوْمٍ.