نحن معذورون حين تمر بنا وفيات الأعيان، ثم لا نتمكن من المشاركة في التفجع والتأبين، وسيان: أكان المتوفون ممن نحب أو ممن نحترم، وبين الحب والاحترام محترس عقدي. فلقد تخترم يد المنون أناساً متميزين، خدموا الإنسانية،
ولكنَّهم ليسوا من بني جلدتنا، ولا ممن يتكلمون لساننا، فيما تكون حياتهم استثنائية، لما تنطوي عليه من ذخائر، يجدر بنا تقصي شطراً منها، متى كان فيها مايصلح للإقتداء، فالحق ضالة المؤمن، والحق والفضيلة تنطوي عليهما ملل ونحل سماوية أو وضعية، ولكنها لاتحتكر شيئاً منها، وعذرنا عن عدم المشاطرة أن الأمة العربية من المحيط إلى الخليج تعيش في زمن تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت. والذين وجدوا متسعاً من الوقت، وفضلةً من الجهد، شاطروا المؤبنين والمتفجعين، ولكن البعض منهم شطَّ به الحماس، وأبعدته العواطف، وطوحت به الإمَّعيَّة عن المحجة البيضاء، وفوت على المتلقي الفائدة المرتقبة، ومهما اتسعت رقعة الإنسانية عند المتوفى، فإن المصداقية والعدل يتطلبان كبح الجماح العاطفي، وبخاصة حين يكون المؤبَّن من قومية أو ديانة أخرى، فحين أنشبت المنية أظفارها في (أبي طالب) عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكافله، ومناصره، حرص على أن يموت عمه على الشهادة، ليحاجَّ له بها عند الله، وأدى إلحاحه العاطفي إلى تَنْبيهٍ رقيق: (إنَكَ لاَتَهْدِي مَنْ اَحْبَبْتَ) وحين ألحَّ في المساءلة والاستغفار، جاء الأمر العازم الجازم (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يُرْوى عنه، قال:- (والله لأستغفرن لك مالم أنه عنك) فنزلت هذه الآية، وكل مفجوع مُحبٍّ لمفقوده أو معجب به، قد تشطح به رغبات غير مشروعة، فيسدي من الثناء ما لا تتسع له حياة المؤبِّن، ومن ثم يفوِّت الفائدة الخالصة من الشوائب، ويفقد بذلك شطراً من المصداقية، وقد يبلغ به الحماس إلى الترحم على غير المسلم، أو القول بهاشميته، أسوق تلك المحاذير، وأعوذ بالله أن يجرمني شنآن قوم على ألا أعدل، بعد أن مات «ستيف جوبز» مؤسس شركة «آبل» = التفاحة المقضومة، ومطوّر اختراع «الفأرة» ورائد رؤية «الآيفون»، بعد أن امتلأت الآفاق من لغط الفضائيات، وفاضت أنهر الصحف من تحبير المقالات، وماكنت أعرفه من قبل، إذ لم يكنمفكراً، ولا أديباً، ولا فيلسوفاً، ولا سياسياً. ولقد حملني الفضول على تقصي تلك الحياة التي أثارت الكتاب والإعلاميين، وحرصت على الوصول إلى أدق دخائلها، والتعرف على الظروف التي صنعت منها تلك النجومية، ومن ثم جَنَّدت أبنائي وبناتي، ليتحسسوا منه في كل المواقع، ولا ييئسوا من روح الله، فكان أن تراكمت المعلومات، إلى حدٍّ الاستفاضة والتواتر، حتىَّ لا أدري ماذا آخذ، وماذا أدع. و»جوبز» الذي أجْهَشَتْ عليه أمريكا، ورثته على لسان رئيسها بما هو أهل له، جدير بمثل هذا التفجع، وليست الكلمات التي أضفاها «باراك» عليه مُسْتَدرَّةً بعامل التشابه بين ظروف حياتيهما، بوصفهما معاً ناتج زيجتين من وافدين مسلمين على بلاد الجذب والإغراء. أما أحدهما فـ»كيني» أسود، وأما الآخر فعربي سوري حمصي. ومكمن القبح والرذيلة عند الرجل الأبيض في (السواد) و(العروبة) و(الإسلام). وهنا لامناص من الوقوف طويلاً عند ملمح أو ملامح مهمة، ماكان لها أن تفوت، دون تفكيك لبنيتها، وتقص لتفاصيل معطياتها. لأن تلك الملامح بعض مايشغلني. فلقد أشرت من قبل إلى سلطان (النسق الثقافي) على كل أمة، وشاهد ذلك لو أن «باراك» لحق بأبيه في (كينيا) وأن «جوبز» لحق بأبيه في (سوريا). أيكون لهما من التألق والتعملق ماكان لهما في (أمريكا)؟ ولسائل أن يسأل: ماهو سر هذا التألق لطفلين مشردين، عاشا في كنف أسر أمريكية، إما بالتبني، أو بمرافقة أحد الأبوين؟ إنه (النسق الثقافي) فأمريكا وفرت لإنسانها حياة كريمة، وهيأت له فرص التألق والتفوق، فسلطاتها الثلاث:- الدينية والسياسية والإجتماعية متناغمة، ومتآزرة، ومتفقة على تكافؤ الفرص، وتداول السلطة، وإحترام النظام، وتوفير الحرية، وحفظ الكرامة، وتهيئة الأجواء الملائمة لصناعة الإنسان، عبر مؤسسات تتوفر على كل مقومات الحياة السوية، هذا (النسق الثقافي) حمل الإنسان الأمريكي على تبادل الإحترام مع الأشياء والأناسي، وإستبطان الثقة بالنفس من خلال إمكانياتها الذاتية، بحيث لايتعدي على حقوق الآخرين، ولا يستغل الأشياء بهمجية، وبحيث يسود الدستور على الدولة والقانون على الحكومة، ويكون الناس سواسية كأسنان المشط، تمكن كل فرد من معرفة ماله وماعليه، فلايتجاوز حده، ولايستغل أخاه، ولايقفز على الحواجز، ولايتسلق المحاريب، بهذا استطاع الأطفال النكرات الوافدون أن يكونوا معارف، يسودون بالعصامية لا بالعظامية. فكان «باراك» رئيساً لأكبر دولةي العالم. وأصبح «جوبز» عبقرياً مبتكراً لأحدث التقنيات الدقيقة (النانو) وثرياً يملك (المليارات). فلا اللون حال دون «باراك»، ولا التشرد والتبني حال دون «جوبز». تلك واحدة من سمات الجاذبية لحضارة الغرب، لانريد من سياقها إلا العدل في الحكم، والتنبيه على نقص القادرين على التمام. فهل يكون للأمة العربية والإسلامية مالهؤلاء من تلك المثل؟. وأخرى ذات مساس بحياة المؤبن، تعد حلقة صدئة في سلسلة الرذائل، فـ»جوبز» تخلى عنه أبواه، وأعطياه لأسرة ترغب التبني، ولكنها ليست كأم (موسى) التي رده الله إليها، وحين شب عن الطوق، نظر إلى أبويه على أنهما مُنْتِجان «بيولوجيان» ليس إلاَّ، ومن ثم كفر بالديانتين الإسلامية والمسيحية، لتصوره أنهما عاجزتان عن احتمال عاطفة الأبوة والأمومة، فكان «بوذياً نباتياً»، ومات على ذلك. وما أكثر الذين يحمِّلون المبادئ أخطاء التطبيقات. وفات «جوبز» وآلاف الواهمين أن التسيب الجنسي والعلاقات الحيوانية الشهوانية تملأ الأسواق باللقطاء والمشردين، الذين يعكسون الوجة الحقيقي للحضارة، و»جوبز» الذي نسل من تحت ركام الرذيلة، يُعدُّ حالة نادرة، لايمكن التعويل عليها، ولا الإحتجاج بها، ولا اتخاذها قدوة، لقد كان موهوباً، وذكياً، وحين فَوتَّ على نفسه الدراسة، لم يفوت عليها صقل هذه الموهبة، ورعايتها. ولقد كنت أقول لطلابي:- مثلما أن كل مولود يولد على الفطرة، فإنه يولد ومعه موهبة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها، وتفويت الموهبة أخطر من تفويت الدراسة، وماأكثر الذين جنوا على أنفسهم، أو جنت عليهم أنساقهم الثقافية، فخسروا مواهبهم، ولم تجد دراستهم شيئاً، فكانوا كسقط المتاع، مانوده من النخب الراصدين لحيوات الإستثنائيين أن يفرقوا بين المبادئ والممارسات، والوقوعات والظواهر، والندرة والشيوع، ولن يكون لغطهم مجدياً حتى يكون الحكم فرعاً عن التصور، وحتى يكون كل شيء عندهم بمقدار، لايجازفون في الأحكام، ولايستخفون بالعقول، ولايهدرون التجارب، ولايفوتون الفرص.