بريدة - خاص بـ(الجزيرة):
طالب متخصص في الفقه المسلمين أن يحرصوا على العمل الصالح في حياتهم ومماتهم، إن كل مسلم يحب أن يستمر ويدوم عمله الصالح في حياته وبعد مماته، ومن أحسن الوسائل لذلك ما شرعه الله من الوقف، مشيراً إلى قول الدهلوي في بيان محاسن الوقف: (وفيه من المصالح التي لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً ثم يفنى، فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، ويجيء أقوام آخرون من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه، ويبقى أصله).
دوام المنفعة
جاء ذلك في إجابة الدكتور عبدالله بن سليمان المطرودي أستاذ الفقه بجامعة القصيم على عدد من الأسئلة المتعلقة بالوقف وفضله، وهل يصح أن يقوم الإنسان بالوقف على نفسه مدة حياته، وهل هذا النوع من الأوقاف جائز، وما الأدلة على ذلك؟
فبداية عرف فضيلته الوقف بأنه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ومعنى تحبيس الأصل أي منع التصرف في العين الموقوفة ومعنى تسبيل المنفعة صرف غلتها على الموقوف عليهم لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر (حبس الأصل وسبل الثمرة) وهذا ما يقتضي دوام منفعة الوقف واستمرارها، وقد دل على مشروعية الوقف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، فمن الكتاب عدد من الآيات تحث على مشروعية الإنفاق وفعل الخير والوقف من الأعمال الخيرية، ومن ذلك قوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}. قال القرطبي: عند تفسير هذه الآية (في هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب، وعمومه، فإن الصحابة لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك) وقد بادر بعضهم إلى التصدق بأحب أمواله إليه، عند نزول هذه الآية. روى البخاري عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة نخلاً، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما أنزلت {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة وقال: يا رسول الله: إن الله يقول: {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ}... الآية، وإن أحب أموالي إلي بيرحاء وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال - صلى الله عليه وسلم -: اجعلها (أي ريعها) في قرابتك، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به يتأول هذه الآية وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْراً لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ}.
ومن السنة أحاديث كثيرة تدل على مشروعية الوقف بعمومه أو بخصوصها، ومن ذلك ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له». وحمل العلماء الصدقة الجارية على الوقف. وما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه، فما تأمرني به؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت به قال: فتصدق بها عمرُ، أنه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يورث، ولا يوهب، قال فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول فيه».
وأما الإجماع فقد أجمع الصحابة على مشروعية الوقف، قال ابن قدامة: «... قال جابر لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف، وهذا إجماع منهم فالذي قدر منهم على الوقف وقف، واشتهر ذلك، فلم ينكره أحد، فكان إجماعاً»، وقال الرافعي: «... اشتهر اتفاق الصحابة على الوقف قولاً وفعلاً» وقال الترمذي: «والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، لا نعلم بين المتقدمين منهم في ذلك اختلافاً في إجازة وقف الأراضين وغير ذلك».
الصدقة الجارية
وأبان الدكتور المطرودي أن لله سبحانه وتعالى شرع الوقف لما فيه من خيري الدنيا والآخرة ولما فيه من تحقيق مصالح البلاد والعباد فالوقف من الصدقة الجارية التي تكون ذخرًا للمسلم بعد مماته. قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، فالوقف من أفضل الصدقات التي يقصد بها التقرب إلى الله تعالى، فخيره دائم في الحياة وفي الممات، إذا اقترن بنية صالحة ورغبة صادقة.
الوقف نوعان
وأضاف قائلاً: والوقف باعتبار الموقوف عليه نوعان وقف خيري ووقف أهلي: فالوقف الخيري هو ما جعل على جهة من جهات البر والخير وجعلت غلته للصرف عليها، كمن وقف أرضا أو عقارا لينفق من غلته على مسجد أو تدريس القرآن أو تعليم علوم الشريعة، وللمرابطين في الثغور، أو كفالة الأيتام الفقراء والمساكين، أو طلبة العلم النافع ومعلميهم، أو على الدعاة والدعوة إلى الإسلام وغير ذلك من وجهات البر والخير العامة والخاصة، فيعتبر هذا الوقف لهذه الجهات وقفاً خيرياً.
والنوع الثاني: الوقف على النفس أو الأهلي أو الذُري: وهو إذا وقف الإنسان على نفسه ثم أولاده ثم أحفاده ثم جهة بر، فهذا هو من الوقف الأهلي فإذا قال الواقف وقفت مزرعتي أو عقاري على نفسي مدة حياتي ثم على أولادي بعد وفاتي، ثم أولاد أولادي ما تناسلوا فتكون منفعة الوقف للواقف في حياته ثم أولاده من بعده، مشيراً إلى أن الفرق بين الوقف الخيري والأهلي هي الجهة التي يتم الوقف عليها، فإن كانت جهة الوقف عامة كالمساجد كان الوقف خيريا، وإن كانت جهة الوقف خاصة بنفسه أو بأولاده أو بأقاربه كان الوقف أهليا أو ذُريا.
الأوقاف هي الصدقات
وواصل عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بالقصيم قائلاً: وهذا التقسيم للوقف بهذه الصور وتسميته بالأهلي أو الخيري لم يكن موجودا في العصور الأولى للإسلام، وإنما كانت الأوقاف تعرف بالصدقات، ولذلك كان يقال هذه صدقة فلان حتى إن الحديث الذي ورد فيه مشروعية الوقف كان يشير إلى أنه صدقة من الصدقات، فقد جاء أن أبا بكر الصديق تصدق بداره على ولده وتصدق عمر على كذا وكذا وغير ذلك من روايات الصدقة، مما يثبت أن العصور الأولى لم تشهد هذا التفريق بين وقف ووقف آخر، وإنما كان الغرض من هذه الصدقات إصابة أوجه الخير والبر. والحقيقة الشرعية أن الوقف شامل لجميع النوعين شمول النوع لكل أفراده، فالوقف سواء كان على النفس والأهل، أو على جهات البر، فيه معنى الخير، والصدقة والإحسان، والمعروف ولا فرق في ذلك.
الوقف على النفس
واستعرض فضيلته عدداً من الأدلة على صحة الوقف على النفس منها ما هو عام كالآيات والأحاديث التي فيها الحث على فعل الخير والصدقات والوقف على النفس فيه هذا المعنى، ومنها ما هو خاص؛ كقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - للرجل الذي قال: عندي دينار. فقال له: «تصدق به على نفسك... الحديث»، وما رواه مسلم عن جابر، قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها...الحديث « ففي هذا الحديث والذي قبله أمر بالصدقة على النفس والوقف في معناها، وما ورد أن أبا طلحة، أراد وقف بستان من نخيل كان أحب إليه من أي شيء عنده، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أرى أن تجعلها فى الأقربين» فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه، وبني عمه، وما ورد عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم -، المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: «من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة»، قال عثمان: «فاشتريتها من صلب مالي» فعثمان - رضي الله عنه - كان ينتفع من هذا الوقف، ولأن المقصود من الوقف التقرب إلى اللّه، والصرف على النفس فيه قربة، فيدخل في عموم الأدلة، وهذا يبين أن ما عليه الناس اليوم خلاف ما عرف في عهد الصحابة، فغالب الناس اليوم لا يعرفون إلا الوصية ولا يعرفون الوقف, ومن المصلحة العامة والخاصة ترغيب الناس في الوقف عامة وفي الوقف على النفس خاصة، فإن أكثر الناس لو علموا حقيقة الوقف وأهدافه وآثاره الطيبة لتسابقوا إليه كما فعل السلف الصالح ؛لأن الوقف عمل صالح ناجز في الحياة يتولاه صاحبه ويشرف على تأسيسه وتنفيذه في حياته ويرى آثاره الطيبة، وقد سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الصدقات أفضل فقال: «أن تتصدق وأنت صحيحٌ شحيح، تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل، حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: «لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان فلان».فينبغي لمن وسَّع الله عليهم في المال أن يكثروا من القربات، والصدقات فيخصصوا جزءاً من أموالهم وعقاراتهم ما يضمنون بقاء أصله ودوام نفعه، فإن مال الإنسان قد يؤول بعد مفارقة الحياة إلى من لا يحفظه ولا يستثمره، فيضيع بسبب التصرف السيئ ولا يستفاد منه، وينقطع عمله، ويصبح عَقِبُه من ذوي الحاجة، والإعسار فلا ينفع الأحياء ولا الأموات ولا المجتمع، ومنعا لكل هذه التوقعات ورغبة في زيادة أمال الخيرات شُرع الوقف في الحياة ليقوم عليه الواقف بنفسه، ويضعه في مصارفه الذي يريد فيكون بعد الوفاة كما كان في الحياة.
منافع الوقف
وخلص الدكتور المطرودي إلى ذكر بعض من منافع الوقف الكثيرة للفرد والمجتمع، فقال: إن الوقف سبب رئيسي في قيام المساجد والمدارس ودور الأيتام ونحوها من أعمال الخير، فإن أغلب المساجد والمدارس على مدى التاريخ قامت على الأوقاف غالباً، بل إن كلَّ ما يحتاجه المسجد من بناء وفرش وصيانة ورَزْقِ للائمة والمؤذنين كان من الأوقاف غالبا، ومما يحسن التنبيه عليه أنه يجب أن يكون الوقف على الصفة المشروعة ويقصد به الواقف التقرب إلى الله لأن الواقف إذا قَصد به مُضارة ورثته، أو دَائنيه أو وقف على ذكور أولاده دون إناثهم، أو لم يكن خالصاً لوجه الله تعالى صار باطلاً ومحرماً لأن ذلك مما لم يأذن به الله، بل ورد النهي عن الضرر والضرار، كما ورد رد العمل المخالف لشرع الله تعالى.