يخطئ من يقول إن البحث العلمي هو وليد هذا العصر وأن منهجيته وآليات البحث فيه هي التي تستند على منهجية علمية أما في العصور السابقة فهي تقليدية ويغلب عليها طابع الارتجال وهذا الكلام ليس صحيحاً لأن البحث العلمي في العصور السابقة كان يعتمد على أخلاقيات منضبطة جوهرها الصدق والثبات في نقل المعلومة فالتأصيل كان حاضراً في أروقة البحث ويعتمد على روح المبادرة ممن انتهجوا الرغبة في البحث دون أن يطلب منهم ذلك ومعظم المصادر التي يبحثون عنها يحاولون بكل ما يستطيعون أن يكلفوا أنفسهم العناء والمشقة والسفر من بلد إلى بلد معرضين أنفسهم لمصاعب الطريق وويلاته وربما يفقدون حياتهم نتيجة للمخاطر التي كانت سائدة في تلك العصور وقد ترتب على ذلك أن خلفوا لنا تراثاً لامس منظومة المعرفة مكتملة وهذا يؤكد على المداومة على البحث والتي ذكرها ياقوت الحموي من صفات العلماء المداومة على البحث والاستقصاء والتثبت في طلب العلم حيث كان العلماء لا يعتمدون في نقل الأخبار إلا عمن يشهد له بالصدق ومع ذلك كانوا يقطعون الفيافي والقفار بحثاً عن حديث أو حكم أو مسألة في شيء قد يكلفهم ذلك مشاق سفر لشهور وسنوات ومنهم من كان يهلك نفسه حتى يحصل على العمل وما كان أحد يمل أو يكل ومن ذلك ما ذكره ياقوت عن أبي الحسن أنه كان أديباً فاضلاً ومحدثاً حافظاً لقي المبرد وثعلبا وأبن أبي الدنيا وكتبه محشوة بالرواية وكان يوصف بالدراية وهذا أيضاً يؤكد أن الباحثين في تراثنا الخالد لا يبحثون عن مجد لهم بقدر ما يبحثون لخدمة البحث الذي يقدم معطيات لخدمة الأمة بخلاف هذا العصر الذي أصبح فيه من الباحثين يبحث عن الشهرة (والبرستيج) في المقام الأول علماً بأن الباحث في هذا العصر يفتقد لبعض المقومات المهنية التي يجب أن تتوفر في الباحث ومن أهمها الصبر والتروي والتضحية بالوقت وهذه أن وجدت فهي متوفرة في المبادرين من الباحثين الذين يقومون بالبحث والتأليف ليس في أروقة الجامعات والكليات الأكاديمية وتتذكر من هؤلاء في عصرنا الحاضر على سبيل المثال في المملكة العربية السعودية الشيخ حمد الجاسر ومحمد العبودي وعبدالله بن خميس والعقيلي في جيزان وعاتق بن غيث البلادي في الحجاز وغيرهم كثير هؤلاء أيضاً لديهم النزعة البحثية التي تشابه الباحثين الذين خدموا البحث العلمي وتراثنا الخالد في عصور مضت أما ما يحصل الآن في أروقة البحث العلمي ولا سيما الأكاديمي فإنه لا يمكن بي حال من الأحوال أن يصل إلى الدرجة والطموح عند الباحثين في العصور السابقة لا كما ولا كيفاً بالرغم من قلة الإمكانيات وافتقادهم للتقنية بجميع أشكالها وكم سمعنا عن السرقات البحثية والتكرار في عمل البحوث ومعظمها لم يأت بجديد كلها تعتمد على دراسات سابقة وعندما تبحث في أي رسالة ولا سيما في الدراسات الإنسانية لا تجد رؤية للباحث وأن وجدت فهي لا تتعدى صفحات قليلة من الرسالة (مجرد نقل في نقل).