التميّز من صفات المبدعين، والإبداع من نتاج المفكرين، والتفكير من جودة العصف الذهني، والعصف الذهني هو المولود المتمخض عن العقل السليم.. كل هذه السلسلة الفكرية المتأصلة في أصحاب العقول المتقدة، إذا لم تترجم إلى أفعال واقعية مفيدة، يشهد بها المتلقي ويزكيها الناس جراء التعامل مع أصحابها فلا خير فيها.. أقول هذا ولدي نموذجان ضمن النماذج الشوفونية التي استمرأت التجديف عكس التيار وخلاف الحقيقة، من أجل تمجيد النفس وتضخيم الذات، بأسلوب سامج وطريقة بدائية، كان يستخدمها السفهاء أيام زمان لمحاولة إقناع الناس بأحداث لم تحدث، مع أن سفهاء أيام زمان أعقل وأذكى من سفهاء اليوم، لأن سفهاء الماضي ليس لدى جماهيرهم من الوعي ما يكفي لكشف زيفهم ودجلهم، بينما سفهاء اليوم يرتكبون حماقاتهم وغطرستهم، وهم يعلمون أن الذين أمامهم أذكى منهم وأعلم وأجدر، ومع ذلك يبالغون في مدح الذات وتمجيد الأفعال وكأن أشخاصهم لم يخلق الله مثلها في البلاد، وإذا نظرت إلى سيرهم الذاتية وأفعالهم العملية وجدت أن المسألة بالنسبة لهم مسألة تسويق للنفس فقط، أي ليس هناك ما يهدف إلى تحقيق أي خدمة للصالح العام، مع أنهم يتبجحون بذلك خصوصاً في حضرة الوجهاء وأعيان المجتمع، ولو سألت أحدهم وواجهته بالحقيقة وأنه رجل مكابر ومسوّق لنفسه، لأفتخر وضرب صدره وأكّد أنه فعلاً يسوّق لنفسه، ويزيد، بأن ذلك من حدة ذكائه وعظمة فكره، لأن التسويق للنفس في اعتقاده هو مطلب هام وضرورة ملحة للرجال الذين يعرفون من أين تُؤكل الكتف، ولم يعلم المسكين بأنه أضحوكة لمن يستمع إليه، حتى ولو جاملوه وأوهموه بالاندهاش من عبقريته التي لا يُشق لها غبار.. هذا النوع من الناس تجده دائماً يدّعي الحكمة ويحتكر العلم ويراهن على إتقان العمل.. والنموذج الثاني أخبث من الأول، فتجده يستغبي الناس ويمرر تمجيده لنفسه عبر تدبيج المديح لغيره!! كيف؟ حصل ذلك في إحدى الصحف المحلية، عندما قام أحد الكتّاب بصب جام غضبه وسخريته واستهزائه وتحقيره للإعلاميين من مقدمي البرامج الفضائية، ما عدا مقدّم برنامج لإحدى الفضائيات كان قد استضافه في برنامجه، فمدحه مدحاً مطلقاً ثم جيّر ذلك المدح لنفسه في آخر الديباجة، حيث قال ذلك الجهبذ ما يلي «برنامج المذيع (فلان) يقود الفكر ولا يُقاد، (ففلان) ليس رخيصاً يتاجر بثقافة أمته وفكرها فيقدم برنامج ما يطلبه المستمعون، وشتان بين قادة الفكر وبين رعاة القطيع، فقنواتنا لا يهدف كثير من مقدمي البرامج إلا إلى الإثارة الرخيصة وكسب الشعبيات بدغدغة البسطاء من العامة في مشاعرهم الدينية والسياسية بطروحات ساذجة مكررة مغلوطة سندها قال وقيل، ولذلك أدرك (فلان)، أهمية الدين والاقتصاد والاستغلال الناتج عن التزاوج المصلحي بينهما والأثر المدمر المستقبلي لكليهما ونتائجه على الأمة فكانت (دعوته لي)». لاحظوا، هنا مربط الفرس ومنتهى ما يقصده ذلك الكاتب المتسلّق، فبعد أن كال المديح واختار العبارات ونسق الكلمات وأكد على أهمية التحاور والطرح العلمي العقلاني من قبل المفكرين ونبذ ما يخالف ذلك من سوء الطرح الذي يثيره رعاة القطيع، أقول بعد أن قال كل ذلك، فجر قنبلة تضخيم الذات فقال (فكانت دعوته لي)! يعني أخونا الكاتب في نهاية المديح لصاحب البرنامج، يعلن صراحة وبكل وقاحة بأنه هو صاحب العقل المستنير والفكر الثاقب والرأي السليم والطرح الواعي ولذلك دعاه المذيع واستضافه! هل هناك أسوأ وأسخف من هذين النموذجين المنتفخين؟ ومع الأسف يعيش بيننا الكثير منهم، ونتعامل معهم يومياً، سواء في أعمالنا أو في ما نقرأه أو نشاهده، فاللّهم امنحنا الصبر على تحمّل سخفهم أو امنحهم العقل حتى يعودوا راشدين.