.. والعمالة في المملكة بهذه الإشكاليات المتفاقمة من أخطر الظواهر, وأشدها حساسية, فالمقيم قد يختلف جنساً ولغةً وثقافةً وأسلوب حياة, وقد يكون من أصحاب السوابق, وهذه السمات تعمق الخلاف بينه وبين المواطن, الذي استقدمه, ليكون في النهاية عدواً وحزناً, والطرفان مع هذا التناقض مرشحان
للاختلاف غير المشروع عند أي احتكاك, وحين نعمق الرؤية في إشكاليات المقيم, فإن العدالة والمصداقية تتطلبان استدعاء مثالب الطرف الآخر, ذلك أننا نلتمس الحلول المتوازنة, ولا نبحث عن المشاجب والإسقاطات, ومن شغلته المشكلة توخى أخذها من أقطارها, وإذ تكون المملكة جاذبة ومغرية وقارة مترامية الأطراف, فإن أهلها كذلك, واختلاف عاداتهم وتقاليدهم وأسلوب حياتهم, يزيد من تعقيد المشكلة, وفوق هذا فإن هناك ضعاف نفوس, يعطون الدنية في مواطنتهم, ويمارسون التستر واستقبال الهاربين وإيواءهم وتيسير تحركهم, بل نجد عصابات تحترف ذلك, وتكسب من ورائه السحت, وجسم نبت على السحت لا يكون مؤهلاً لحماية بلاده وسمعتها, ومساندة المسؤولين في حفظ الحقوق المهدرة لكل الأطراف ومن كل الأطراف.
وكم من مواطن مستور الحال وفَّر من قوته وقوت عياله واقترض, ثم ظل شهوراً يرقب قدوم سائقه أو شغالته, حتى إذا حطَّ أحدهما رحاله, تخطفه المتربصون, ويسروا له الهروب, وكيف لا نتصور أن ظاهرة الهروب ظاهرة منظمة وعدد الشغالات الهاربات نيف على عشرين ألفا, وكيف لا نخاف من ضعف الولاء للوطن, وكل الهاربين يجدون من يؤويهم, ويخفيهم عن أنظار رجال الأمن, وكيف لا نتصور ضعف الأجهزة المعنية والمشاكل بازدياد. لقد سمعت وسمع غيري حكايات خرافية مضحكة مبكية (وشر البلية ما يضحك) وأجهزة الأمن تنطوي ملفاتها على قضايا, لو سربت للرأي العام لما قَرَّ له قرار.
إننا لكي نبدأ الخطوات القاصدة في سبيل الحل يجب أن نعترف بالضعف والتقصير والمواطأة, من كل الأطراف, وإدراك الخطأ والاعتراف به بداية الحل السليم. والداء العضال الذي لم يجرؤ أحد على كشفه المتاجرة بـ»الفيز» وبيعها في السوق السوداء, وقد تمنح لطالبيها رغبة أو رهبة, والوضع لم يعد يحتمل السكوت, فأمن البلاد واستقراره وأخلاقياته واقتصادياته فوق الجميع, والشفافية التي ننادي بها, ليست غاية في ذاتها, إنها وسيلة لمبادرة المشاكل, ووأدها في مهدها, وعلى السلطة التشريعية أن تفكر بجد, لوضع آليات تطبيقية لحسم مثل هذه المشاكل, فـ»وزارة العمل» لا تستطيع اجتثاث مثل هذه الظواهر المتجذرة, والمنهج الطبيعي والسليم أن تستلم الوزارة كافة الأعمال بعد قطع دابر المشاكل المتجلية للعيان, وعلى المسؤول ألاَّ يجد غضاضة من الشفافية, ومواجهة المجتمع بما هو قائم من أخطاء وتجاوزات, ووضع كل مقترف أمام مسؤوليته, وليس هناك ما يمنع من أن نقول: (عفا الله عما سلف) ولكن يجب أن نضع إلى جانبها {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} وفي ظل تفاقم المشاكل, لم تعد الحلول المؤقتة والجزئية مجدية.
في ظل استشراء المشاكل وتنوعها وتعقدها, لابد من تفكير سليم يأتي الظواهر السلبية من قواعدها,وأهم الحلول: تهيئة الوزارة لتكون بإمكانياتها المادية وكفاءاتها البشرية كماًّ ونوعاً وأنظمتها الواقعية في مستوى المسؤولية الملقاة عليها, ولا بد من التوازن في حماية كل الأطراف, فالمواطن يلح في الشكوى, ويرى أن الأنظمة وأجهزة الأمن ووزارة العمل كلها في صالح العمالة, وأنه مظلوم, ودول العمالة وقناصلها يشكون من استغلال العمالة والإساءة لها, وهيئة حقوق الإنسان بفضولها وتدخلها غير المشروع تطلق التصريحات بين الحين والآخر: (وكل من لاقيت يشكو وضعه).
وإذ تكون البلاد منطقة جذب, ومجالاً للكسب, والدول بحاجة إليها, فإن من حق المسؤولين أن يضعوا من الأنظمة ما يحمي الوطن وحقوق المواطن والمقيم على حد سواء, ولتكن الأنظمة قوية وحازمة وصارمة ومنفذة, ذلك أن { من يخطب الحسناء لا يغلها المهر}. وإذا شعر المقيم بصرامة الأنظمة ووضوحها وحزم المسؤولين وقدرتهم على تنفيذها, استبعد من تفكيره العبث, وعلى أجهزة الدولة أن تضع قنصليات الدول التي تنتمي إليها العمالة في الصورة, بحيث تزود كل قنصلية بأي تصرف مخل بالأخلاق أو بالأمانات أو بالعقود صغيراً كان أو كبيراً, و لابد أن تكون القنصليات شريكة في المتابعة والمحاسبة, ومتى استفحلت المخالفات في جالية من الجاليات, وجب استدعاء مسؤولي السفارة, لتدارس الأمر, وتداركه, إن إطلاع دولة المقيم على أي مخالفة مدعاة للانضباط وتقليص للمخالفات, إن المواطن والمسؤول والمقيم (في لجة أمسك فلاناً عن فُلِ), وعسى أن تفرج الأمور بعدما استحكمت حلقاتها, ولن يغلب عسرٌ يسرين.
وللخروج من المأزق بأسرع وقت وأقل تكلفة, لا بد من الخطوات التالية:
أولاً: الرفع من كفاءة الوزارة مادياً وبشرياً, بحيث تواجه مشاكل عشرة ملايين مقيم باقتدار.
ثانياً: وضع نظام واقعي لا مثالي, مقدور على تنفيذه وحمايته, بحيث يكفل حقوق الأطراف كلها.
ثالثاً: إلغاء المؤسسات الضعيفة والوهمية أو تقليصها بضم بعضها إلى بعض.
رابعاً: إلغاء الكفيل بمفهومه القائم, واستبداله بعقد ملزم: أداءً ومدةً ونوع عمل.
خامساً: إلزام مكاتب الاستقدام في المملكة والخارج بالكفالة الغارمة عن الإخلال بالعقد أداء أو مدةً, وذلك باقتطاع قدر من الراتب حتى نهاية العقد والوفاء به.
سادساً: أي مخالفة متعمدة, يجب فرض العقوبة المناسبة وتنفيذها والتشهير بالمخالف.
سابعاً: استخدام البصمة للمخالفين المعادين إلى بلادهم, بحيث لا يعودون إلى المملكة.
ثامناً: تحديد الإقامة بسنتين من صلاحيات المكاتب, وأربع سنوات من صلاحيات وكيل الوزارة, وست سنوات من صلاحيات الوزير, ثم لا يجوز التمديد بعد ذلك إلا بأمر سام, وتستثنى العمالة المنزلية.
تاسعاً: منع قيادة السيارة إلا للمستقدم لها.
عاشراً: منع العمل إلا في نطاق العقد.
أحد عشر: منع العمالة من ممارسة التجارة والتسويق إلا من خلال كيانات قائمة, وعلى ضوء عقود تخول مثل ذلك.
إثنا عشر: إيجاد محاكم فورية داخل مكاتب العمل ودوائر الأمن لحسم المشاكل واعتماد الغرامة والخروج النهائي بدل السجن.
ثالث عشر: تكثيف الدوريات والاستعانة بالمتعاونين والمتعاقدين لملاحقة المخالفين.
رابع عشر: تشكيل لجان لتجميع المشاكل, ودراستها, وتحليلها, والخروج بتوصيات وضوابط تحد منها.
خامس عشر: حصر العمالة في مجالات محدودة, فليس من مصلحة البلاد والعباد أن تكون العمالة في كل بيت وفي كل موقع وبطريقة فوضوية, بحيث لا ترى مواطناً في أي موقع.
سادس عشر: وضع ضرائب تصاعدية على كل المحلات التجارية الكبيرة التي تكل أمرها للعمالة.
سابع عشر: وضع عدة أنواع للإقامة مثل: إقامة سائق, مهني, مُسَوِّق, إداري, فني. ولكل نوع عدة مستويات, ومعاقبة أي مخالف لمهنته.
ولن يتحقق ذلك إلا بمتابعة دقيقة وحازمة ومن خلال حملات مكثفة وعبر فرق بشرية تغطي أكثر من عشرة ملايين وافد ومثلهم معهم من المستفيدين.
تلك بعض الهموم التي لا أشك أنها تساور كل مسؤول, ولأن الوضع لا يحتمل المزيد فإن مبادرة المشاكل مطلب رئيس من كل الأطراف.