يبحث الإعلامي حديث التجربة عن موضوع يحقق له شهرة واسعة ويفتح له أبواب المجد والعلو ويضعه في مصاف ومكانة كبار الإعلاميين حتى لو كان بحثه ذلك عبر وسائل غير مشروعة وسبل غير لائقة، فالأهم لديه أن يصل للسبق الذي يسعى لأجله ويناضل بسببه وهو بذلك لا يعير الأمانة التي ينبغي أن يتحلى بها أي اهتمام، فغايته واضحة حتى لو كانت وسيلته غير مشروعة.
إعلامي آخر ذو تجربة حديثة أيضاً يبحث لنفسه عن ذلك المجد أو ما يحققه له من سبوقات إعلامية فلا يجد حتى وإن اعتلى سلم الوسائل والسبل غير المشروعة، فيقوم عن قصد عامداً متعمداً بتلفيق قصص معينة لشخصيات عامة جاذبة ليحقق ما عجز عن تحقيقه فيما لو حمل أمانة العمل الإعلامي.
وبال ومآلات فعل كلا النموذجين يعود بالضرر الجسيم ليس فقط على من تعرضوا له ولفقوا عنه أو عليه وعلى المجتمع بأسره وعلى الوسيلة الإعلامية التي تنشد تحقيق الأمانة وتصدق بها، بل على أنفسهم أيضاً بحيث لن يعد من يؤمن بمصداقيتهما حتى لو أتيا بأخبار صحيحة غير مزورة أو ملفقة. ثم المجتمع الذي يصبح مع تكرار هذا المشهد في أكثر من وسيلة وبأوقات متعددة يألف أفراده الكذب والبهتان والغيبة ثم تصبح لدى بعض أفراده الرغبة أكثر جموحاً لتلفيق الأخبار وتناقلها والتشهير بمن تم التلفيق عنه أو عليه.
الإشكالية تكمن حين لا تتوخى الوسيلة الإعلامية أدنى درجات الأمانة في نقل الخبر أو رصد الحدث أو التعليق حتى على أمر معين، فتحكمها الميول وتسيرها العواطف وتصبح أبعد ما تكون عن التزاهة في نقل الخبر والمصداقية في رصد الحدث، فتخسر مشاهدها أو مستمعها أو قارئها، وتخسر قبل ذلك مصداقيتها نتيجة تفريطها في أمانة المهنة.
في بعض دول العالم، لا يتردد الإعلام في اقتحام أسوار الحياة الخاصة وتفاصيلها للشخصيات السياسية أو العامة، ورغم حرية الإعلام الكبيرة والديمقراطية الموسعة إلا أن هناك حدوداً لما تتناوله تلك الوسائل الإعلامية عن الحياة الخاصة للشخصيات العامة، وإن حدث فلديهم نظام صارم يعيد الحق لأصحابه وتتكبد الوسيلة خسائر باهظة نتيجة تجنيها على شخصية سياسية أو اجتماعية عامة.
لكن ماذا عن توجه الوسيلة بشتى برامجها وعدتها وعدادها للنيل من شعب بأكمله أو من دولة بسيادتها، الأمر حتماً مختلف، لأن التلفيق هنا لا يتناول فرداً بل مجتمعاً بأكمله أو دولة بأكملها وذلك بلا شك لم يعد أمراً يندرج في أمانة الإعلام ونزاهته، بل فيمن يقبع خلف ذلك التوجه الذي جعل من تلك الوسيلة أداة للعبث السياسي والنيل من الآخر.
هل بتنا في زمن المال الذي يحكم الإعلام ويسيره بحسب أهواء من يملكه، هل تلاشت القيم وزالت الأمانة، ثم هل أصبحت ضمائر الإعلاميين تباع وذممهم تشترى وبشكل علني، هل أصبح المتلقي لآخر هموم الوسيلة الإعلامية كما هو النموذج الإعلامي للوسيلة منظومة كاملة تقوم على رؤية محددة وتوجه أحادي ونبرة مستمرة، فالمتلقي العربي أيضاً منظومة كاملة يحكمه عقله ويرشده للصواب والخطأ، والنموذج الإعلامي الموجه لا يقبل الفصل والتجزئة أو الانتقائية لأنه ينتج معرفة تلفيقية وأخباراً مهزوزة بينما النموذج الإنساني يحكمه اقتناع مدعم بدليل.
لا عجب بعد ذلك أن تصبح تلك الوسيلة الإعلامية من الناحية الإخبارية مصدراً للتلفيق المبرمج والكذب الممنهج، ومن الناحية الثقافية مصدراً للاشمئزاز والتندر، فتفقد مصداقيتها وتسقط أقنعتها ويقل عدد متابعيها، وتصبح مثالاً جديراً بالتدريس في مدرجات قاعات الإعلام كوسيلة فاقدة للأمانة وأنموذج صريح حي للكذب والتلفيق. إلى لقاء قادم إن كتب الله.
dr.aobaid@gmail.com