أسلفتُ أنَّ قصيدة أسفار الرؤيا من عيون شعر الدكتور، ومقطعها المضيئ يبدأ بقوله:
(أترك يدي
لأعطي من بقايا الورد نرجسةً
أعلِّقها على أعطاف حلمٍ
من خبايا العمر في دربٍ شَرِدٍ).
وأشهد أن هذه الصورة لوحة فنية ناطقة اختار فيها دلالتين من الزنابق هما: الرائحة الجميلة الفوَّاحة، والعين المبصرة التي تحظى بها عيون النرجس إذا بلَّلها النَّدى، ولقد وصف الشاعر المعاصر إضاءة ألحاظ النرجس كإضاءة الدمع في عيني المحبوبة، واللوحة تعبيرٌ عن الشارد من خبايا العمر؛ وليس من تزكية النفس؛ لأن ذلك اجترار للأحلام، وكلُّ طَموحٍ يحلم بآماله،وليس كلُّ حلمٍ يتحقَّق,. هذا قدْرٌ كافٍ من هذه اللوحة التعبيرية؛ فلنرتقب ما وراءها مما يعلق بدلالة هذه اللوحة؛ فنجد هذه المقطوعة:
(أما خباياي فأنهلُها مَدَدْ
أما خباياي فتكفيني
ففيها العالم السحري والعلوي والسفلي والأزلي
والأبدي والرؤيا على طول الأمد)
فإطلاق اليد طلب للحرية في مواصلة منازل السائرين، وكأن المزجور بكلمة (اترك) هو الكسل والخمول، ونجد في هذه المقطوعة مما يدور كثيراً في شعر الدكتور كلمة (مدد)، وهي من تعبيرات أهل التصوف المعتدلين الذين يترقبون عناية الله ويطلبون المدد العام في الهداية والمغفرة والرزق والصحة وتزكية البصر والبصيرة؛ وإذا أعجب أحدهم بموعظة أو عبارة من لسان حكيم عالمٍ أو شاعرٍ أو واعظٍ قال: (مدد مدد يا سيدنا الشيخ)،. يعنون زدنا من هذا الإلهام الذي تجلَّى في عباراتك، وقرن الدكتور بذلك عوالم سحرية علويةً وسفلية وأزليةٌ وأبدية، ففهمتُ ببادي الرأي أن الدكتور يستغيثُ بمددٍ رباني يُلهم البصيرة ويزكِّي السلوك,. وأعلم أن المتفقِّه أو طالبَ العلم الشرعي إذا جعل من عناصر نقده خبرتَه العلمية ومعاناته الفكرية قد يثقل على شفافية الفنان، ولا أبالي بذلك لأنني أعرف رحابة صدر الدكتور؛ فلا أحمل العالم العلوي إلا على معنيين هما غذاء البصر والبصيرة: الأول فواتح الخير من مدد العلي الكبير جل جلاله، فهو الذي يهب عباده الراغبين إليه فراسة المؤمنين، ويزكِّي سلوكهم برياضة النفوس على طريقة الزُّهاد العُباد من أمثال الإمام أحمد وبشر الحافي وغيرهم وهم كثير رحمهم الله تعالى,. لا على طريقة المتجاذبين الكذبة الذين يُزكُّون أنفسهم بمعارف ذوقية لم تحصل لهم، ومع هذا يدَّعون كِتْمانَ إذاعتها كما في حائية شهاب الدين السهروردي:
أبداً تحن إليكم الأرواحُ
ووصالكم ريحانها والراحُ
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمة للعاشقين تكلفوا
ستر المحبة والهوى فضاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماءُ البائحين تباح
وإذا همُ كتموا تحدث عنهمُ
عند الوشاة المدمع السفاح
وبدت شواهد للسقام عليهمُ
فيها لمشكل أمرهم إيضاح
خَفْضُ الجناح لكم وليس عليكم
[م] للصب في خفض الجناح جُناح
فإلى لقاكمْ نفسه مرتاحة
وإلى رضاكمْ طرْفه طماح
فهذا يسمونه الحب الإلهي، وقد يكون لهم وَجْدٌحقيقة، ولكنه مزاج فاسد، أو وسواس شيطان، أو خيالٌ متأنِّق,. ولا توجد فراسة المؤمن، وصفاء مداركه، وانغمار قلبه بالمحبة والفرح إلا على سمْت الشريعة، وعلى منهج أولياء الله حقاً من السابقين الأوَّلين من المهاجرين والأنصار.
والمعنى الثاني التفكُّر في الملكوت العلوي المشهود معرفةً، أو المشهودُ العلمُ به من آثاره,. وأما العالَم السفلي ففيه من التفكُّر ما في ملكوت الله العلوي ما يقوِّي الإيمان، وفي صدور المؤمنين وطروسهم العلمُ العلوي الذي جاء وحياً من عند الله وإن كانوا هم في العالم السفلي، وما عدا ذلك في عالمنا السفلي فكثيرٌ منه شرور ولاسيما الأرواح الخبيثة؛ ولهذا قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مُعَلِّماً أمَّتَه: ((أعوذ بعظمتك أن تضلني لا إله إلا أنت أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون))، ولم يذكر إلا الجن والإنس لأنهم من العالم السفلي، وفيهم شياطين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً؛ فربطهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بالإضلال، ولم يذكر الملائكة عليهم السلام لأنهم لا يحصل منهم إضلال، بل يستغفرون للمؤمنين، ويُميِّز المؤمن لَمَّة الملك الكريم عن همزات الشيطان الرجيم,. والعالم السحري غير مناسب في هذا السياق الذوقي الكريم، والأزلي استعمالٌ اشتقه المتكلمون من كلمة: (لم يزل),. يريدون به معنى القِدَم والأبدية، والصحيح شرعاً الأول بلا بداية لا شيئ قبله ولم يسبقه عدمٌ ولا زمن سرمدي، وهو الآخر بلا نهاية لأنه الحي الدائم الباقي؛ فلا شيئ بعده,. وموجز القول أنا أخذنا نافذة على اللوحة الأولى التي علَّق فيها الدكتور خباياه على أعطاف الحلم؛ وإنني أرى - ولا أزكي على الله أحداً - أن الدكتور أخذ جذواتٍ واقعيةً وليست حلماً؛ لما أعرفه عنه كرماً وأريحية خلق، والمؤمن سيماه في وجهه، ثم ننتقل إلى مقطعٍ آخر لعلنا نطل من نافذة ثالثة:
(مُتْ يا أنا أو كُفَّ عني للأبدْ
نفد الجلَدْ
إما على جمر اللظى
قدماي أو فوق البرد
أترك يدي لا تعطني يدك)
قال أبو عبدالرحمن: لا أفهم هذا الابتهال إلا على طريقة أهل الذوق التي لا ترى قيمة للأنا إلا إذا تجرد عن السِّوَى، وارتبط بالمدد والعالم العلوي، ولكنه يزين ذلك بابتهالٍ واعترافٍ قد لا يوجد عند كثيرٍ من أهل الذوق؛ وذلك قوله:
(إني رضعت براءتي من ثدي أمي في نقاوة برعم
وخطيئتي من ثدي دنياي ومن شفةٍ كأحلام العسل)
قال أبو عبدالرحمن: سأنتقل لحظة من الذوق الأدبي إلى مطارحةٍ علمية عاجلة؛ فالبراءة لم نرضعها من ثدي الأم، وإنما هي فطرة ونحن في الأصلاب؛ فالعقل منذ بداية تمييزه مفطور على حب الحق والبحث عنه قبل أن تغطشه مُتغيِّرات الحياة، ومفطورة على إشهادٍ من الله سبحانه وتعالى، وهو من علم الغيب المحض؛ وإنما دلَّ عليه أحاديث صحيحة يُفَسَّر بها قوله سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين (172) سورة الأعراف، وهذا الإشهاد (الذي لا نذكره ولا نعقله) لم يحاسبنا ربنا عليه، وإنما جعله ربنا رحمةً لنا إذا حافظنا على هذه الفطرة وكنا على حذرٍ من أعدائنا الذين بيَّنهم الله لنا، وهم النفس الأمارة بالسوء وشياطين الجن والإنس الذين يجلبون الشبهات ويزينون الشهوات، والغفلة والكسل؛ ولهذا فأصحُّ الأقوال أن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم من أهل الجنة سواءً أكانوا أطفالَ مسلمين أم كانوا أطفال كفار، ويشهد لذلك رؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام في صحيح البخاري،. قال: ((حدثنا مؤمل بن هشام قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا عوف أبو رجاء قال: حدثنا سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- إذ رأى الروضة الخضراء المعتمة، ورأى فيها رجلاً كأطول ما يكون من الرجال وحواليه ولدان كأكثر ما يكون من الوِلدان؛ فسأل النبي عن ذلك؛ فأخبر أن الرجل إبراهيم صلوات الله عليه، وسأل عن الولدان، فأخبر أنهم كل مولود مات على الفطرة؛ فقال له رجل من المسلمين: يا رسول الله: وأولادُ المشركين؟.. قال نعم وأولاد المشركين)) (1)، ويشهد لذلك قول الله سبحانه وتعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (30) سورة الروم، ويشهد لذلك الحديث الصحيح: (كل مولودٍ يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه)، وما في معناه كحديث إن الناس حنفاء فاجتالتهم الشياطين، ويشهد له أن الله يخاطب العقل إنكاراً وتقريراً وتوبيخاً عند عرض آياته في الآفاق وفي الأنفس؛ لأنه يحاسبه على فطرته التي فطره الله عليهاي العلم؛ ولهذا جعلها الله شرط التكليف، ولهذا أيضاً كانت أول دعوة الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام مخاطبةَ العقول بالبراهين الحسية قبل نزول أحكام الشرائع التي يجب الانقياد لها بالطاعة،. ومن فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الفتوح الكريمة أنه اشترط أن يكون أطفالُ الكفار في ولاية المسلمين لأنهم مسلمون مثلهم،. وقد ذهب بعض العلماء كأبي عبدالله محمد بن نصر المروزي والإمام أبي محمد بن حزم رحمهم الله تعالى إلى أن الأرواح خلقت قبل الأجساد، ليجعلوا ذلك دليلاً على حضور تلك الأرواح الإشهاد الذي ذكره الله في سورة الأعراف.
قال أبو عبدالرحمن: قال الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى: ((والذي نذهب إليه في مستقر الأرواح أنها حيث أخبر به رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فإنه قال: إنه رآها ليلة الإسراء؛ فإنه- صلى الله عليه وسلم- ذكر أنه رأى في سماء الدنيا آدم عليه السلام عن يمينه أَسْوِدة، وعن يساره أسودة، وأنه إذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن يساره بكى؛ فسأل النبي-صلى الله عليه وسلم- عن تلك الأسودة؛ فأخبر أنهم نَسَم بنيه، وأن الذي عن يمينه منها نسم أهل الجنة,. فإذا نظر إليها ضحك، وأن الذي عن شماله نسم أهل النار؛ فإذا نظر إليها بكى إشفاقاً,. وهذا الحديث معنى قوله تعالى: فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ سورة الواقعة (8 - 11)، والسابقون هم الأنبياء، وكل من شاهده الرسول-صلى الله عليه وسلم- تلك الليلة في الجنة ما بين سماء وسماء (2),. وهذا الحديث أيضاً يؤيد مذهبنا في ظاهر قول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ (11) سورة الأعراف، وثم في العربية تقتضي رتبة معها مهلة لا سبيل إلى غير ذلك (3)؛ فصح أن هذا الخطاب من الله تعالى للأنفس خاصة، ولعناصر الجسد قبل تصويرها منياً ثم لحماً ثم جسداً إنسانياً، والله تعالى خلق الأنفس جملة وهي الأرواح وهي النسم وأمرها حيث رآها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ورتبها في مواضعها؛ فأرواح أهل السعادة في محل السعادة، وأرواح أهل الشقاء في محل الشقاء,. قال إسحاق بن راهويه: على هذا أجمع جميع أهل العلم، وهكذا ذكر محمد ابن نصر المروزي عنه، ثم يرسل الله عز وجل إلى كل جسد بصورته وتركيبه الروح الذي سبق في علمه تعالى أنه ينفخ فيه على ما جاء في الحديث الصحيح أن ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ثم يكون علقة أربعين يوماً ثم يكون مضغة أربعين يوماً ثم ينفخ فيه الروح,. وهذا معنى قوله: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ سورة الانفطار (6- 8) يريد صورة الأجساد الإنسانية (4),. وبين ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)) (5),وهذه الآيات والأحاديث تبين قول الله عز وجل: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَ (172) سورة الأعراف؛ فصح كل ما قلناه آنفاً أن هذا الأخذ صحيح، وأنه للأرواح التي خلقها الله تعالى جملةً واحدة)) (6).
قال أبو عبدالرحمن: كنتُ أظن أن هذا رجمٌ بالغيب من ناحية القِدَم إلى عهد آدم عليه السلام، ثم تبيَّن لي صحَّته وإن كانت دعوى الإجماع كؤودة، وليس لأحدٍ أن يقول عن الغيب إلا بخبرٍ من الله سبحانه وتعالى، وقد قام البرهان بالنصوص التي ذكرها أبو محمد إلا أن رؤية رسول الله- صلى الله عليه وسلم-كانت عن أرواح من مات، وفي وقت رؤيا الرسول- صلى الله عليه وسلم- النسم كان هنالك خلق كثير أحياء لم تفارق أرواحهم أجسادهم، وأما أن الملك ينفخ الروح في الجنين عند تكوين خلقته فذلك حق، ولم يرد في سياق الحديث أن الروح تُخلَق حينئذ ونثبت عن الروح ما ثبت من الخبر ولا نكيِّفها لقوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) سورة الإسراء, وقد هوَّم بعض الفلاسفة في دعوى معارف الروح، وأنها إذا حلَّت الجسد نسيت معارفها كما في قصيدة ابن سينا التي مطلعها:
هبطتْ إليكَ من المكان الأرفع
وَرْقاءُ ذاتَ تعزُّزٍ وتمنُّعِ
وقد عارضها كثير من الشعراء كأحمد شوقي، والمرجَّح لدي أن قصيدة العنقاء لإيليا أبو ماضي التي مطلعها:
أنا لست بالحسناء أوَّلَ مولعِ
هيَ مَطْمَعُ الدنيا كما هي مطمعي
إنما هي عن الروح لا عن السعادة كما زعم بعضهم، ولُقِّب أبو العلاء المعري رَهينَ المحبسين (العمى، والجسد الذي أضاع معارف الروح)، وإنما هو رهين ثلاثة محابس كما في قوله:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النَّبيثِ
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيثِ
وكل هذه طُرَفٌ أدبية نُعجب بها بملكة الخيال ولا نبني عليها حقائق شرعية ، وأما (ومن شفةٍ كأحلام العسل) فأحمد الله أن الله أنجى الدكتور من وخزاتي، لأنه لم يذكر القُبلة التي هي إمضاء الحب؛ وإنما كان في دائرة اللَّمَم أو فُوَيقه؛ فيدخل في قول أبي محمد بن حزم رحمه الله تعالى:
يلوم رجالٌ فيك لم يعرفوا الهوى
وسيَّانِ عندي فيك لاحٍ وساكتُ
يقولونَ جانبتَ التَّصاونَ جُملةً
وأنت عليمٌ بالشريعة قانِت
فقلتُ لهم هذا الرياء بعَينه
صُراحاً وَزِيٌّ للمُرائينَ ماقت
متى جاء تحريمُ الهوى عن مُحمَّدٍ
وهل مَنْعُهُ في مُحْكَمِ الذِّكْر ثابت
إذا لم أواقعْ محرَّماً أتَّقي به
مجيئيَ يوم البعث والوجهُ باهت
فلستُ أبالي في الهوى قول لائم
سواءٌ لعمري جاهرٌ أو مُخافت
وهل يلزمُ الإنسانَ إلا اختيارُه
وهل بخبايا اللفظِ يُؤخذُ صامت
فالدكتور شفع بأحلام العسل، ويعني بذلك أنها مجرد ذكرى، وأحملها على ما كَثُر دورانُه في الشعر العربي الفصيح كزعم الشاعر أنه لم يذق ريقها، وأن ذلك طعم المساويك، ثم ننطلق إلى نافذة ثالثة:
[يا سيدي
طافت على رؤياي أستار الحجاب
إني أنا الميناء والمدن وظلال أحلام ضلال
وأرى بني قومي على هامات تيه من ضلال
يتهالكون
يهرولون من اليمين إلى الشمال
ومن الجنوب إلى المحال
وأراهم في سكرة المذبوح أنهكه الصراع
وكأنني هذا الفضاء
في عالم مكنون أبعاد السماء
فأنا هنا وأنا هناك أنا القمر
والشمس والأضواء والديجور
يصبو لابتهالات السَّحر
يمشي ويضطرب
غادٍ إلى أحلام ميناء على
دنياي ينتحب
وأقول في نفسي
ألا يا نفسي أين المنطلق
المركب الأبدي يجري في امتدادات النفق
هل يا ترى يمضي إلى ميناء أحلام الشراع
أمشي ولا أمشي
أبعدَ الموت موتٌ وارتفاع].
قال أبو عبدالرحمن: الدكتور هائم بين حبين: حب أرضي ككل شاعر يُغنِّي على ليلاه، وحب أهل الطريقة الذين يلتمسون فيوض المدد للبصيرة من الله سبحانه وتعالى على منهج منازل السائرين الذي شرحه ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في مدارج السالكين، وحب المصطفى- صلى الله عليه وسلم-,. وأسفار الرؤيا في جملتها هي من منازل السائريين حسب أُمنيَّته؛ ولهذا ألمح هو لمحةً خفيفة إلى ما يعيق السائر من شفةٍ كأحلام العسل ظن أنها تُعيق إدلاجه، والقول ما قال الإمام أبو محمد رحمه الله تعالى كما مرَّ في تائيته,. ولكن بشرط - يا دكتور - أنك لم تُقبِّل، وأن الأمر كما ذكرتَ أحلام!!.. والله سبحانه وتعالى هو سيدنا ومولانا، وهذا هو اللائق بمناجاة الدكتور في قوله: (يا سيدي)،فهو يشكو أستار الحجب التي تعيق درب السائرين حسب مستويات منازلهم؛ ولهذا جمع بين الطموح والتعثُّر رامزاً بالميناء وضلال الأحلام،. وهذا الطموح الذي يعاينه في منازل السائرين نعاه على كثير من أبناء قومه ابتلعتهم المدنية بحضارتها،فطمست المادة عالم الروح، وفي المعادلة بين الجهات الأربع ذكر اليمين والشمال والجنوب ولم يذكر الشرق؛ وإنما ذكر بدله المحال؛ والمعنى واضح، وهو أن المراد إشراق المعرفة التي لا تكون إلا برياضة الروح وصفاتها؛ وبهذا يكون الشروق يساوي المحال.. وقبل إدراكي لهذا المعنى الناصع تفلسفتُ وقلت: (فإن صدقتْ رؤيتي فالمحال رمز الشرق، لأنه قِبْلة معظم أهل الجزيرة إلى الغرب التي هي أرض بني قومه، وعلى أي حال فمهما كانت رموز الشطرين فهو يعني التِّيه أمام من لم يعانوا الرياضة على منازل السائرين،. مع أن اليمين والشمال تُعْطي التخبُّط، وهذا مشهور في العرف اللغوي حول مَن يسير ذات اليمين وذات الشمال من غير هدى،. وإن أردنا التعمُّق عن متاهة الشرق الذي ظننت أنه المرموز له بالمحال فإنني أجد في تاريخ الأديان تعليل تسمية اليمن يمناً - وهي جنوب - لأن من يعبدون الشمس يتَّجهون إلى المشرق، فتكون اليمن عن يمينهم كما قص الله سبحانه وتعالى عن سبإ في سورة النمل، وجُعلتْ الشام لجهة الشمال وكانت تسمى شآما بالمقابل لليمين، وأما الغرب فتسميتها واضحة من غروب الشمس، وهكذا الشرق لخروج الشمس من المشرق)، وأما (سكرة المذبوح) فلا أراها تركيباً ذا دلالة صحيحة،لأن المذبوح يرقص ألماً، وسكرة الحياة كغياب السائرين في منازل الخير لا يُحسُّ صاحبها آلام الدنيا كلها بل هو فيذة،. ولقد كرر الدكتور نفسه في تمزُّقه بين الطموح إلى ميناء الذين بلغوا الغاية في منازل السائرين وبين من هم في أول الطريق يُؤَرِّقهم الحلم الطموح، فجعل (الأنا) هي كل هذا الفضاء وأبعاد السماء، وهي تناقضات الأضواء والديجور؛ والبرهان على ذلك ابتهالات السَّحَر بفتح الحاء المهملة، وأحلام الشراع هي الميناء الذي يرسو عنده الواصلون على طريقة أصحاب الذوق.
قال أبو عبدالرحمن: قبل استكمال القصيدة أقف عند بعض الدراسات ابتداءً بالدكتور إدريس بلمليح فأجد في تحليله للمقطع الأول نثراً للعبارات التي في المقطع، وهي اليد المقيدة والنرجسية وأعطاف الحلم والعمر والدرب,. وكل هذه الأشياء تحصيل حاصل، ثم يزيدنا فضولاً بأن مقومات اليد أنها مقيدة تتألق من عضو بشري وحركة تتجول في الحلم إلى ناقص حركة،. وهذا والله من الفضول واللغو والتمعلم,. وهذا الفضول كقول القول: ((علم زيد بمجيئ صديقه فجاء مسرعاً يمشي في يوم مطير تتمايل نظارته، ففي هذا التعبيرالأدبي الخلاب: مسرعاً + يمشي أي على رجليه + في يوم مطير؛ فهو يخوض في الوحل + تتمايل نظارته؛ لأن الماء يطمسها، والله خلق الأذنين لتحملا يدي النظارة = قمة الحب والوفاء))،. اللهم لك الحمد!!.. ثم أجد الغلطة الصلعاء في التعبير بنقص الحركة، وليس هذا بصحيح، بل هي حركة نشيطة دؤوبة، ولكنها متعثرة في بلوغ مرحلة أهل الذوق، ولم أرَ من التعثُّر إلا شِفَة حلم العسل,. وتفلسف في النرجسة وأنها رمز لعشق النفس، والنرجسية بهذا المعنى مشهورة مذمومة، وقصيدة الدكتور مُكرَّمة عن هذا المعنى، وإنما استعار منها نظر البصيرة التي أسلفتها، ونظرُ البصيرة هو محور المدلجين في منازل السائرين، وإنما أوقعه في الخطإ وتسويد الورق بالفضول أنه لم يستوعب المعنى الكلي للقصيدة وهدفها الذوقي المستشرِف،. ثم نجد من التفلسف والفضول وتحصيل الحاصل هذا التحليل العجيب، ((فمقومات النرجس على هذا الأساس هي: + نبات + جميل + على حافة الماء + ينظر إلى نفسه,. يتحول دلاليًّا إلى: + إنسان +ذاتٌ فردية + أنانية،. ثم يتحول في الحلم إلى: + ذات + إنسانية + غيرية,. والحلم: + خيال + بشري + عند النوم + عابر,. يتحول في قوله: من خبايا العمر إلى: + خيال + أمل + دائم + يرتبط بالماضي والحاضر والمستقبل,. ثم يتحول في قوله: في درب شَرِد إلى: + حقيقة + ضائعة + في درب بعيد,. والذي يهمنا من هذا التحليل الأوَّلي هو ارتباط هذا الحلم بزمن هو العمر - كل العمر - أي بزمن مطلق، وبفضاء بعيد عبَّرت عنه الذات بالشرود أي بفضاء مطلق هو أيضاً؛ ولذلك فإن الذات الإبداعية تعاني من القيد,. أي من كونها مسلوبة الإرادة غير حرَّة فيما تروم فعله أو تقصد إليه، ومن كونها ذاتاً تحلم من زمن بعيد بأن تحقق أملاً ضاع منها في فضاء بعيد،. إنها ذات منقسمة على نفسها،. ذاتٌ تخاطب أناها بأنا أخرى تجدها مقيدة كنها تعاني من الأَسْر,. تخاطبها بأن تتركها حرة؛ كي تحقق حلمها الذي شرد منها في درب لا حدود له,. نستطيع أن نستخلص إذن أنها ذات ممزقة بين رغبة ظاهرة ويومية مبتذلة تُحدَّد في رغباتها الفردية، ورغبة دفينة ومستقرة في منطقة الحلم,. هي هذا الحلم الشارد الذي تريد أن تُعلِّق عليه وردة جميلة ورائعة هي زهرة النرجس)) (7).
قال أبو عبدالرحمن: ذِكْرُ خوَّاص النرجس فضول، وتحولها إلى إنسان له خصوصية فردية هي الأنانية تحليل غير موفق؛ فقد أسلفتُ أن النرجسة لا النرجسية رمز لرؤية البصيرة من قلب كريم له عطر الزنابق، وقد بيَّنتُ كثيراً في بحوثي أن الذات ليست بمعنى النفس، وأنها اسم إشارة لا تضاف إلا إلى مؤنث كذات الشمال وذات اليمين بمعنى ذات جهة اليمين وذات جهة الشمال،. ومن العجائب أن يعكس هذه الدلالة التي تعود إلى نفس الشاعر فيكون مرة (هو) ويكون مرة (غير هو)، والحق أن الدكتور يُعَبِّر عن وصفه نفسَه وهو يسير إلى بلوغ حلمه الطموح، ويصف نفسه وهو يتعثَّر ولو بحب الخد الأسيل؛ فهما وصفان للنفس وليسا انفصالاً يعني الأنا واللاأنا،. ومن الفضول تحليل الحلم بأنه خيال بشري عند النوم عابر، فهذا تحليل غير موفق، بل من حلم النوم ما هو رؤية تقع كفلق الصبح، ومنه ما هو استذكار واقعي لمسار حياة الرائي يُركِّب منها الخيال علاقات بين الماضي والحاضر والأماكن والأشخاص، ثم إن حلم الدكتور حلم يقظة لا حلم نوم، وهذا الحلم هو الذي تمتزج عناصره من القلب والعقل، وهو عند ذوي الاستشراف طُموح مُنهك يلتمس تزكيةَ السلوك بالتقوى، وإضاءةَ العقل بالمعرفة الإلهامية,. وفي آخر تحليله للدرب الشَّرِد يجعل الحقيقة ضائعة في درب بعيد، وليس هذا بصحيح؛ فالحقيقة باقية لم تَضِعْ؛ وإنما يعترض الضياع حيناً وحيناً السائر إلى الحقيقة التي يعلمها علم اليقين بالبراهين ولم تحصل له بالإلهام الذي يزيد الشيئ معرفة أقرب من دلالة براهين العلم على وجوده،. ولا أدري وجه التعبير لغة عن الشرود بكلمة (شَرِدْ)، وأما شرود الدرب فواضح وهو ما يعتري السائر من عقبات رتَّبها أهل الذوق في المراحل التي أطلقوا عليها منازل السائرين,. ويتعبني ملاحقة التحليل الفضولي وتحصيل الحاصل وتوضيح الواضحات؛ فرؤيا الدكتور واضحة لا يمكن أن تكون إلا عن عمره المديد إن شاء الله في ماضيه وحاضره وناظره؛ فأي إضافة حينما يكرر الدكتور إدريس ارتباط الحلم بالعمر؟!.. وعاد إلى خطئه في التعبير عن انقسام النفس لا انقسام صفاتها عند أهل الذوق في تعبيرهم عن الفناء والمشاهدة والأنا والسِّوى، وآخر كلامه لا ينطبق على ما أسلفتُه من مقاطع، ولا على ما سيأتي من مقاطع، فالمقاطع السالفةُ والمُسْتأنفة إضاءات على طموح دؤوب إلى بلوغ الميناء المعرفي، ولم يذكر شيئاً من تفاهات الحياة التي تحجبه، وإنما ذكر مُعوِّقات قللة ينشط بها المدلج إذا كانت أحلام عسل من شفة، وإلى لقاء آخر إن شاء الله، والله المستعان.
***
الهوامش:
1- الأصول والفروع ص 229 - 230.
2 - قال ابو عبدالرحمن: لا بد من دلالة خارجية تربط بين معنى الآية الكريمة ومعنى الحديث؛ ولماذا ترجح عندي صحة مذهب ابن حزم، رأيت الآية دالة على معنى الحديث.
3 - قال أبو عبدالرحمن: مذهبي سابقاً أنه لو دل ذلك على ما قال أبو محمد لكان ذلك تصويراً للنسم، لأنه لم يذكر نفخ الروح فيهم، واختار الإمام ابن جرير وابن كثير أن الكلام عن آدم عليه السلام بصيغة الجمع.. قال ابن كثير في تفسيره (3-391-392) دار طيبة: (وقال الربيع بن أنس، والسدي، وقتادة، والضحاك في هذه الآية: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} (11) سورة الأعراف، أي: خلقنا آدم ثم صورنا الذرية.. وهذا فيه نظر؛ قال بعده: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ} (11) سورة الأعراف، فدل على أن المراد بذلك آدم؛ وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر، كما يقول تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} (57) سورة البقرة، والمراد آباؤهم الذين كانوا في زمان موسى عليه السلام، ولكن لما كان ذلك منه على الآباء الذين هم أصل صار كأنه واقع على الأبناء.. وهذا بخلاف قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} (12 -13) سورة المؤمنون، فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة، وذريته مخلوقون من نطفة، وصح هذا لأن المراد في {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ}، الجنس، لا معينا والله أعلم)، قال أبو عبدالرحمن: ثم لما صح أن النسم للأرواح، وأن الأشهاد في سورة الأعراف للأرواح لا للأجساد الجماد تراجعت إلى مذهب الجمهور ورأيت التفسير الماضي متكلفاً.
4 - قال أبو عبدالرحمن: كدت أرى قبل تراجعي أن هذا دليل على أن المراد الأجساد كما مر في التعليقة رقم (3).
5 - قال أبو عبدالرحمن: ليس في هذا نص على أن التعارف قبل نفخها في الأجساد، ثم تبين لنا من سورة الأعراف قدم الأرواح.
6- الأصول والفروع ص 195 - 197.
7 - الذات والحلم ص 14 - 16.