** كـــانت جلسةً حميمةً شهدها صاحبكم مع أستاذٍ كبيرٍ يُجلُّه وشابٍ نابهٍ يُهمه، وراق له الصمتُ والفرجة كما اعتاد ؛ فرأى الفارقَ بينه وبين الفتى، وإذ لا يستطيعُ رصد مقارنةٍ شافيةٍ بينهما للمسافات الفاصلة عمرًا وبيئةً ومتغيرات ؛ فقد أعجبه أن يرى الفتى حرًا من أغلالِ « الأبويةِ» التي نشأنا فيها ودرجنا عليها، وكان الحوار بين الأستاذ والشاب متكافئًا بنديّةٍ نادرة، ولو وضع نفسه مكان هذا الناشئ لتنازل عن بعض اقتناعاته حسمًا للجدل مع هذا الكبير سنًّا وعلمًا ومكانة.
** راقب المشهد بإعجاب، واستعادَ ما تربى عليه جيلٌ يسكنه السكوت، وربما وأدوا حروفهم في غيابةِ العيب والحذر، لا من أهلهم الأدنين بل ومن الأبعدين ؛ فاللياقةُ تقضي تفويتَ ما تسمع وتحجيم ما تعتقد، وراق له أن يرى جيلا مؤطرًا بالاحترام والذوق دون أن يفقدَ علانية حقه في الاختلاف.
** ليست الحكايةُ فرديةً بل تمسُّ جيلا صاعدًا لم يعد يرى فواصل بينه وبين من سبقه مهما تباعدت مسافات الشهادات والألقاب والثروات ؛ فقد نشأ حرًّا بتكوينه وتربيته، ولم يقرأ مفردة الحرية بتوجسٍ وقلق كما كنا حين سادت لمجايلينا مقولة «عبد الناصر» التي لم يطبقها: « إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديموقراطية».
** انعتق الجيل من إسار المظهر المشخصن بفردانيةِ الأبوية وسلطتها وربما تسلطها ؛ ولم يعد يعنيه أن يكون قبيلُه ذا شأنٍ وجاهي أو مجتمعيّ، ومن يتابع وسائط التواصل الاجتماعي يدرك أن الفوارق كلها تلاشتْ، وربما خطب الكبير رضا الصغير.
** لا تبدو ثقافة القطيع قابلةً للتطبيق ؛ ما جعل الخطاب النخبويّ والرسميّ والوعظيّ بحاجة للتغيير الجذريّ ؛ بما يحمله ذلك من وضعِ مواصفاتٍ للحديث والمتحدث كيلا يصيرا هامشًا في متنٍ لم تعتد مكوناته: سمعنا وأطعنا.
** نعرف اليوم حجم الهدير الإعلامي لا بصوت «أحمد سعيد» ولغة «محمد حسنين هيكل» بل بصورةٍ وفيلمٍ ولغةِ بدن وانطباعِ مظهر، وإذ أيقن الكبار في العالم الغربي أنهم - كما ممثلي الشاشة - يُلقنون حركاتهم وسكناتهم وفق قراءات معمقة من بيوت الخبرة الإعلامية تراعي نفسية المتلقي وخلفياته السياسية والمذهبية والاجتماعية فإن ذلك لم يُقنع الرموز الفاعلة لدينا بدءًا من الأب والأم ومرورًا بالقيادات الثقافية والرسمية، ولعله قد آن حينُه.
** استعاد نظرات الخبير الإعلامي البريطاني «جون براند» - حين تدرب على يديه في « شفيلد «- وتذكر مشاعر الدهشة التي غمرته قبل عشرين عامًا وهو يقارن بينه وبين زعيمة بلاده حينها «مارغريت ثاتشر»، ولا يدري: أيهما أكبر، وظنه حلمًا حتى أيقظه منه شباب لم يولدوا وقت أن كان دوره التدربَ للنسيان.
** الأدوار بلا مقاسات.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon