معظم القراء في العالم، يجهلون الجهود والمعاناة التي يبذلها ويُقاسيها الكاتب، لينجح في تماهي عباراته مع أحلامه ورؤاه، وبالتالي ليكسب قراء يفهمونه، ويتعايشون مع أفكاره وأحلامه.
وما لا يعرفه القرّاء أيضا أن «نفْسَ» الكاتب وحدها، هي
عدوّه اللدود، وحاكمه الأسوأ، ومُزدريه الأكثر خطراً وتطرّفاً.
يعيش الكاتب، باستمرار، على شفير الهاوية والعجز، يُعذبه الشك، مُتسائلاً مع كلّ سطر يخطّه عمّا إذا كان ما يكتبه يستحق كلّ هذا العناء.
من النادر أن يظهر على كاتب حقيقي «فرح الإبداع». فالغالب أن يسود اليأس والإحساس بلا جدوى كل شيء.
وَسْواس «ما جدوى ذلك!» المُرعب، كثيراً ما يسيطر على آراء تولستوي وفلوبير وبافيزيه وهمنغواي، حيال مؤلفاتهم.
الكتابة رهان جنوني مُرعب. الكاتب يجهد، من خلال كلمات، باحثاً عن حلّ اللغز المتعلّق في ما وراء الكتابة بالحياة. لذلك نسمع، أحياناً، صرخات رعب تنتهي إلى إتلاف مخطوطة كتاب، أو ضياعها، أو إحراقها، أو سرقتها من قبل شخص ما، ليدّعي هذا بعد ذلك أنه مُؤلّفها، وأنه أصبح كاتباً.
في الرابع والعشرين من يوليو 1994م، في مطار مرسليا، والكاتب (فرانسوا نوريسييه) عائد إلى وطنه من كورسيكا، وقف ينتظر حقائبه. عند قدميه حقيبة بطاقات ائتمان ودفتر شيكات ومجوهرات زوجته، إضافة إلى مخطوطة رواية أنجزها. ينتهز لص تلك اللحظات لينشل حقيبة الرواية. في لمحة بصر يفقد الكاتب عمل تسعة عشر شهراً في روايته الثالثة عشرة، لم يكن يملك نسخة عنها. قال: «أشعرُ كأنني شُللتُ. فقدتُ جزءاً غالياً من كياني». بعد شهرين عثر صياد على المخطوطة. رفض (فرانسوا نوريسييه) استعادة مخطوط روايته، وتمتم: «أرفض استعادتها مثلما أرفض، عادة، امرأة كففتُ عن حبها». اعتبرها رواية ملعونة. تغلّب (نوريسييه) على واقعة السرقة، مُحوّلاً إياها رواية جديدة عنوانها «رواية مسروقة»، نشرها عام 1996م.
) أبرز الكتّاب العرب الذين أحرقوا جميع مخطوطات كتبهم هو أبو حيان التوحيدي، الذي آثر إعدام كتبه كي لا تقع بين أيدي جهلة.
رغم معرفتنا المؤكّدة أن لا أحد سيتمكن من استعادة الكتب المحروقة، أو المسروقة، أو المُتلفة، أو المفقودة، أو الضائعة، فإن تصوراتنا عمّا تحتويه هذه الكتب تجعلنا في حالة افتتان بنصوص تلك الكتب، كأنما هي أفضل ما كُتب في تاريخ الإنسانية.
إنه وهمٌ لطيف، وافتتانٌ حالم.
Zuhdi.alfateh@gmail.com