مابين غمضة عين وانتباهتها
يغير الله من حال إلى حال
من المعلوم أن الحج إلى بيت الله العتيق، هو الركن الخامس من أركان الإسلام، واجب على كل مسلم ومسلمة يستطيع إليه سبيلا، سواء حضورياً أو نيابيا...، فقديماً قبل وجود وسائل النقل الحديثة كان يعاني المسلمون مشاق السفر في الوصول إلى هاتيك البقاع الطاهرة التي أوجد الله بها كعبته المشرفة بمكة المكرمة، ومرقد خاتم أنبيائه بالمدينة المنورة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز آمرا نبيه ابراهيم عليه السلام بقوله: وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) سورة الحج. وكان حجاج البر يأتون قاصدين بيت الله الحرام راجلين مشياً على الأقدام محملين مطاياهم بأمتعتهم وأطعمتهم متحملين مشاق السفر في قطع الفيافي والقفار التي لاتخلو من المخاوف والأهوال، ومن قطاع الطرق، بل ومن المتاهات - أحياناً - في تلك المهامه الشاسعة التي يضل بها الساري... لعدم وضوح معالم الطرق والمسالك الآمنة، قبل توحيد وتربع جلالة الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - على عرش البلاد كافة، فيواصلون سيرهم في الروحات والدلج.. أياماً وليالي طوالاً يحدوهم الشوق إلى تلك البقاع المقدسة لأداء حجهم، وإلى ملء أعينهم بالنظر إلى بيت الله - جل ثناؤه - والطواف حوله بوقار وسكينة ، وإجالة أنظارهم نحو أروقته ومناراته العالية تلذذاً وتشوقاً لتبقى صوراً جميلة خالدة في أذهانهم إذا رجعوا إلى أوطانهم، ثم السعي بين الصفا والمروة، والتنقل بين المشاعر التي شرفها الله وسنها سيد البشر عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ومن حرص أولئك الحجاج على طي الأرض التي تطؤها آبالهم بأخفافها أن الواحد منهم يَحْدُو وينشدُ بعض أبيات الشعر العربي إذا شعر بتباطؤ الإبل وتكاسلها في سيرها في ظلمة الليل مُتذكراً قول الشاعرحيث يقول:
فغنها فهي لك الفداء
إن غناء الإبل هو الحداء
فالجمال تحس كما يحس الإنسان وتُطربها الأصوات الجميلة الشجية، فتمد أعناقها وتوسع خطاها طرباً، فكأَنّ تلك الأصوات في تأثيرها وتحريكها لتلك القوافل التحريك المعنوي تشبه الى حد ما «جهاز ريموت التلفاز» في ذا الزمن من زيادة أو انخفاض»، فالجمال سفن الصحراء - كما يقال - وهي من أصبر الحيوانات على حمل الأثقال وعلى طول السُرى وقطع المسافات الشاسعة، ولقد أجاد الشاعر في وصفها حيث يقول:
بمصطحبات من لصاف وثبرة
يزرن (إلالاً)(1) سيرهن التدافع
سماماً تباري الريح خوصاً عيونها
لهن رذايا بالطريق ودائع
عليهن شعث عامدون لحجهم
فهن كأطراف الحُني خواضع
وبعد تلك العقود المتطاولة من الزمن الموصوفة بالمتاعب والمشاق وطول السهر غير الله من حال إلى حال أجمل وأفضل أراحت الجمال من الرواحات والدلج بالسيارات التي يُسيرها أصحابها لمقاصدهم في فجاج الأرض مع مواكبة الطيران بأعداد محدودة - آنذاك -، وفي عصرنا الحاضر تطورت وسائل النقل من السيارات الفخمة الكبيرة لنقل آلاف الحجاج، ومن الطائرات العملاقة التي تصل هُوياً إلى مطارات المملكة العربية السعودية من كل مكان من أصقاع الدنيا حاملات مئات الألوف من حجاج بيت الله في أوقات قياسية، فهذه من نعم الله على عباده، وعندما تطأ أقدامهم أرض المملكة العربية السعودية يجدون الراحة والاطمئنان وحسن الاستقبال مع توفر جميع الخدمات وما يحتاجه الحاج من سكن مريح ووسائل ممتازة للتنقل بين المشاعر بيسر وسهولة مجاناً مع توفرمياه الشرب والأطعمة وسائر الفواكه بوفرة، ومن أبرز وسائل التنقلات بين المشاعر وأماكن تجمع الحجاج مشروع الملك عبد الله بإيجاد عددكبيرمن القطارات الممتازة للتنقل بين المشاعر ورمي الجمار بسهولة ويسر تام، كما شمل المشروع توسعة مرمى الجمرات حيث تم تصميمه بأربعة أدوار رحبة الطرقات والمساحات من حولها حيث سُهل الوصول إليها عن قرب، بل وعلى حافات الحوض للضعفة وذوي القدرات الخاصة، كما تم تأمين أعداد كبيرة من العربات الصغيرة لتنقلهم إلى مواقع رمي الجمار بسهولة، كما لاينسى التاريخ ما قام ويقوم به خادم الحرمين (أبو متعب) من توسعة المسعى والمسجد الحرام توسعة لم يسبق لها مثيل (البتة) فأعماله يحفظه الله تتسم بالجزالة وبعد النظر في تحقيقها.
ومن مظاهر موسم الحج في الآونة الأخيرة إشراف الجهات المختصة على الحملات التي تنقل الحجاج بالمشاعر المقدسة، وحثهم على الالتزام والوفاء بالعقود المبرمة بينهم وبين حجاجهم ليسعد الجميع..، كما أن وجود مفت في كل حملة مما يبشر بخير وينور السائل بالإجابة السديدة، ومن حظ الحملة التي سعدت بالانضمام إليها وجود الشيخ الدكتور أحمد بن عبد الرحمن القاضي مفتياً بها الذي كان لايتوقف رنين هاتفه لكثرة السائلين رجالاًونساءً فكانت إجاباته فورية وسديدة تتسم باليسر والسهولة وفقه الله ورعاه، والحقيقة أن مثل تلك الحملة العملاقة في تنظيمها ودقة مواعيدها وتوفيرها لجميع الخدمات وما يحتاجه الحاج من فُرش وسرر نظيفة، وأطعمة وفواكه ومشروبات متنوعة تستحق الشكر والدعاء للقائمين عليها بدوام التوفيق، فالله سبحانه لايضيع أجر من أحسن عملا.
وفي نهاية هذه الكلمة الوجيزة لايسعني إلا أن أهنئ خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله على نجاح وتمام هذا الحج بكل يسر وهدوء مع كل الشكر الجزيل لجميع الهيئات العاملة والجهات المشاركة في نجاح هذا الموسم المبارك ولسان حال جميع الحجاج يدعو لملك القلوب - أبو متعب - بطول العمر، وسعادة الدارين مرددين:
فاسلم ودم سعيداً مهنئاً
فحظ الورى في أن تعيش وتسلما
(1) إلال: جبل بعرفة