هي حكاية؛ تبدو غريبة على مجتمعنا خاصة؛ والعربي عامة.. كيف بدئ قانون التقاعد والضمان الاجتماعي في العالم؟ دعونا نقلب الأوراق ونرى سجلات التاريخ..
في قديم الزمان؛ أي في العصر الحجري لم يكن لكبار السن وجود (عادة لا يمكنه الوصول لسن متقدمه)؛ فالكل يعمل؛ والحظي الذي يعيش إلى العشرين من العمر؛ والجميع يموت لأسباب غير طبيعيه (فإذا لم يأكله وحش، أو يسقط من مرتفع، فإنه حتماً يغرق أو يحترق أو يمرض إلى آخره من الأسباب؟!)..
إنْ نجح شخص واستطاع الوصول إلى ما بعد العشرين؛ (أي تبدو عليه علامات تقدم السن؛ وتظهر عليه تجاعيد تشابه رجل الغراب حول العين مثلاً)، فإنّ مصيره أن يؤكل من قِبل مجموعته؛ كبادرة احترام، أو يعبد لتقديسه؟! الحياة آنذاك بهذه البساطة.! في العصر التوراتي، التاريخ يبيّن لنا قلّة من البشر نجحوا في الوصول إلى سن متقدمة؛ وكان احترام كبار السن عالياً؛ ولم يكن قد اخترع التقاعد في ذلك الوقت؛ وكانوا يعملون في الفلاحة أو الزراعة ورعي المواشي ونصب الخيام؛ وإنْ لم يكونوا قادرين على هذه الأعمال فإنهم يباشرون أعمالاً أقل تخصصاً وجهداً مثل التنبؤ أو إصدار الوصايا والنصائح أو يعمل مع أولاده إلى أن تفارقه الحياة!.. أي إنها أعمال إداريه في ذلك الوقت من زماننا..
ومرّت القرون على هذا المنوال، وكبار السن في ازدياد، في بداية القرون الوسطى تجلّت ظاهرة غريبة في الدول الغربية، وهي العداء لكبار السن؛ الذين كانوا موجودين بكثرة في كل مكان؛ يعطون النصائح ويردّدونها ويكرّرونها، ينافسون الشباب في أعمالهم؛ ويتمسّكون بثرواتهم وممتلكاتهم إلى درجة فقدان الاحترام لهم، ووصلت الأمور إلى أنّ الأبناء أخذوا بقتل المعمّرين لغرض وراثتهم؛ وهذه الظاهرة الخطيرة استمرت (خصوصاً في فرنسا) إلى منتصف القرن الثامن عشر..
أحد الكتّاب آنذاك كتب في عام 1882 قصصاً مستقبلية في توقُّعاته بتقاعد عدد كبير من كبار السن إلى مكان هادئ؛ يشجعون فيه على التأمُّل، ثم يعطون جرعة من الكلوروفورم (مادة مخدّرة تستعمل آنذاك؛ أوقف استعمالها؛ الإفراط فيها يسبب عدم انتظام ضربات القلب؛ أو ما يُعرف بالوفاة المفاجئة بواسطة الشم) لقتلهم بهدوء وسلام!..
القصة اسمها «الفترة الثابتة» والكاتب هو «أنتوني ترولوب»؟؟ كبار السن عالة على المجتمع! لأنهم بتمسُّكهم بأملاكهم وثرواتهم؛ يهدِّدون النسيج الاقتصادي والاجتماعي في أمريكا..
في عام 1883 اخترع المستشار الألماني الشهير «اتو فون بسمارك» معاش التقاعد؛ عندما أعلن بأنّ حكومته سوف تدفع راتباً تقاعدياً إلى أي شخص فوق الـ 65 سنة من العمر ولم يعمل؛ وهدفه المحافظة على المجتمع الرأسمالي آنذاك المهدّد بظهور الماركسية وتعاليمها الاشتراكية والشيوعية؛ وللعلم كان من الصعوبة بمكان أن يصل الإنسان الألماني لسن الـ65!..
إنّ البنسلين لم يُكتشف؛ إلاّ بعد قرن تقريباً من ذلك التاريخ؛ (كون المضادات الحيوية كانت عاملا» أساسياً في إطالة عمر الإنسان)..
في 1905 وضع الطبيب المعروف آنذاك «وليم اوسلر» أسساً علمية على حد تعبيره؟! لنشاط الفرد؛ وعند دمجها مع اقتصاد البلاد المعاصر؛ جعلت التقاعد من وجهة النظر الحكومية مقبولاً: صنُّف العامل من سن 25 إلى40 بالسنوات الذهبية في النشاط والكفاءة ومن 40 إلى 60 بدون إبداع أو بناء ولكنه مقبول؛ أما بعد 60 من العمر فهو عديم الفائدة والأحسن أن يُترك ليرعى كما ترعى الماشية؟! تصوّروا؟ طبعاً التعريف لا يمت بصلة إلى العلوم الطبية أو حتى الاجتماعية..
لكن في ذلك الوقت فكرة التقاعد؛ جاءت مفيدة في الولايات المتحدة؛ لوجود عدد كبير من العمال في المصانع؛ كبيري السن يعرقلون الثورة الصناعية؛ ينافسون العمال الشباب الأكثر حيوية والذين يعيلون أطفالاً ونساءً؛ وزاد الوضع سوءاً عندما حصل «الكساد الكبير» في أمريكا فأصبح من الواضح؛ الحل في إيقاف عمال المصانع المسنين 60 سنة؛ عن العمل هو إعطائهم رواتب تقاعدية وكانت بحدود 200 دولار شهرياً ما يعادل دخل عامل متوسط..
ووضع الرئيس «روزفلت» الضمان الاجتماعي عام 1935 ويحتم على العمال الدفع المقدّم من رواتبهم للحصول على التقاعد لتأمين كبرهم؛ علماً بأنّ متوسط العمر في أمريكا كان 61.7 سنة.. ظهر خطأ ذلك الحل أخيراً في عام 1955؛ فإنّ مبلغ التقاعد كان لابد أن يزداد باستمرار؛ تبعاً للتضخم وكذلك ما تبعه من الازدهار الاقتصادي الذي طالب بأيدٍ عاملة أكثر خبرةً ومراساً..
وجاء التغيّر الدراماتيكي في عام 1970 حيث وجب زيادة الأجور؛ حسب التضخم الحاصل سنوياً؛ وبدؤوا بزيادة سنوات الأحقية من 60 إلى 65 ثم 67؛ وتوالت الأحداث من كساد؛ إلى ازدهار اقتصادي، وتغيّرات كثيرة؛ وجد في جلّها خسائر كبيرة في مؤسسات الضمان الاجتماعي، مما وضع أسساً مخيفة في مستقبل كساد وتضخم من نوع آخر؛ لذا أعيد دراسة قوانين الضمان وبدأ التغيير الفعلي في سن «قانون التمييز العمري» (لكل شخص الحق في مواصلة العمل ولا يوجد تقاعد إلزامي أو قصري إلاّ إذا أثبت أنّ العامل غير قادر على إنجاز العمل)؛ وهذا يُطبّق على كل الشرائح العمرية.. وهو يمنع التقاعد الإجباري ويؤكد على عدم التمييز في توظيف العمال والموظفين في القطاع الحكومي والخاص حسب العمر؛ وبقي قانون التقاعد لمن يرغبه طوعاً.. مما أوجد الحل الجذري لمشاكل الوطن والعباد.. ومن حينها؛ لا يوجد حقل العمر في استمارة التوظيف لوكالات التوظيف في أمريكا وكندا.. آخذين بنظر الاعتبار القوانين أعلاه وتطوُّرها لعمال المصانع والعمالة التجارية فقط؛ وكان الاستثناء من التقاعد القسري من البداية إلى الباحثين والأطباء والمهندسين .. الخ من العمالة الفنية.. تذكيراً في مجتمعاتنا، إنّ نظرة الإسلام إلى كبار السن منذ 1433 سنة؛ حقيقة ثابتة، أنّ الإسلام قد اهتم بالإنسان في جميع مراحل حياته؛ حيث يقول الله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [الإسراء: 70]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقِّر كبيرنا)..
بهذه المفاهيم الفاضلة نشأت الحضارة العربية الإسلامية، وقدّمت إلى الإنسانية الفلاسفة والعلماء والأدباء الذين أعطوا أبدع الاكتشافات وأروع الاختراعات التي لا يسع سردها صفحات هذه المقالة؛ وكان إنجازات غالبيتهم وهم في أعمار متقدمة؛ اهتم مادياً بهم مباشرة أمراء المؤمنين والخلفاء على تعاقبهم، ومن بيت المال آنذاك؛ وهو والله الضمان الاجتماعي غير الإلزامي؛ وإنْ لم يسمّ بتسمياتها الحالية؛ وقد تبنّت الحضارة الغربية العديد ثم العديد من إنجازات العرب الأخلاقية والعلمية. وبرغم ما أحرزته الحضارة الغربية من تقدم في هذا العصر؛ فإنّ الحضارة العربية الإسلامية تظلُّ هي الأرقى والأصلح؛ لما تتميّز به من طابع إنساني، يقوم على احترام آدمية الإنسان أيّاً كانت ديانته، أو جنسيته. والحضارة العربية ماردٌ جبارٌ مصيرها الصحوة من سباتها الطويل..
نحن في واقعنا الحالي تبنّينا الضمان الاجتماعي والتقاعد بدون بصيرة، كما جاء مع الاستعمار المتمركز في الدول العربية؛ وساهم المتعاقدون الأوائل من بعض هذه الدول المستعمرة آنذاك، في تركيز هذه القوانين عند تأسيس الدولة المدنية في المملكة العربية السعودية؛ وبدون دراسة لواقع مجتمعها المختلف كمّاً ونوعاً.. والتبنِّي هذا بقي جامداً؛ بدون أي تتبُّع إلى إحداث التغيُّرات والتطوُّر السالفة في لوائح التقاعد من مصدرها؛ ولم تتم أيّ دراسات محلية مطوّرة؛ ومواكبة للعصر وحاجة الوطن من الأيدي العاملة؛ والموظفين؛ والمختصين الفنيين في القطاع العام والخاص..
والجدير بالذكر إضافةً إلى اختلاف مجتمعنا أصلاً، فإنّ كثرة الأيدي العاملة الأجنبية المتعاقدة، وقلة الموطنين العاملين وخصوصاً المختصين الفنيين من سماته الرئيسية..
والأدهى من ذلك لدينا مؤسسات وطنية في المملكة؛ تأسست بعد عام 1970 على لوائح مأخوذة من الأنظمة الأمريكية والكندية الحالية «وهي عدم التمييز العمري» وبدون التقاعد الإلزامي؛ وكانت وجهة نظر متطوّرة ومستقبلية ومثالية من أولياء الأمور لتغيير واقع الخدمة المدنية بما يماشي العصر.
وأنشئت مؤسسة مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث غير التابع لقوانين الخدمة المدنية؛ على أساس الأنموذج لما يمكن أن يكون عليه مستقبل الخدمة المدنية في المملكة؛ وكما هو معروف فإنّ المغفور له جلالة الملك فيصل - طيّب الله ثراه - كان سابق أوانه؛ وسباقاً إلى إنشاء هذا الصرح الشامخ..
إلاّ أنّ إدارات هذا الصرح؛ المتعاقبة في الآونة الأخيرة بعد سنة 1985 كان جلَّهم من الذين تمت إعارة خدماتهم من مؤسسات الدولة التابعة للخدمة المدنية التقليدية؛ وهي بدل أن تصدر المعرفة الوظيفية المتطوّرة من هذا الصرح؛ ليعم المؤسسات الأخرى حسب رؤية الراحل العظيم المغفور له بإذن الله؛ أخذت على استيراد الأنظمة المدنية المطبقة لقانون التقاعد الأمريكي عام 1935 وإرضاخ هذا الصرح لها.. وأصرت على تطبيق الضمان الاجتماعي على البعض (والمعيار المصالح الشخصية وليس مصلحة المؤسسة)..؛ وأدى ذلك إلى عدم تجديد عقود مواطنين؛ على مستوى عالٍ من الإنتاجية والكفاءة؛ وباختصاصات نادرة وإحالتهم على الضمان؛ من أطباء وباحثين؛ واستبدالهم بمتعاقدين أجانب تزيد أعمارهم على 60 سنة؟ وإنْ لم يجدوا الاختصاص النادر في جبهات العلم الطبي الأمامية؛ فأقفل الاختصاص وأرسلوا الأجهزة المكلفة بالملايين إلى المخازن وفي الآخر إلى المزاد؛ أما المساعدون المواطنون المتدربون على تقنيات حديثة جديدة؛ تم تغييرهم إلى اختصاصات موجودة أصلاً..
والعجيب كل ذلك يحصل مع تنامي حرص خادم الحرمين الشريفين وأولياء الأمور في رعاية العلم والعلماء والأبحاث العلمية؛ وبانتظار عودة أعداد من طلبة الدراسات العليا من بعثات خادم الحرمين الشريفين للرجوع باختصاصات نادرة ليبدؤوا بالتأسيس من جديد؟!؛ بدلاً من تطوير الاختصاصات الموجودة وهي تقليص لسوق العمل العلمي؛ خلافاً إلى «لا نبني من جديد بل نواصل البناء»؟! الوطن يمر بفترة ازدهار جديدة تدعو إلى الريادة في كل المجالات؛ خبرة الباحثين لا تقاس بالسن الوظيفية بل بالإنتاج العلمي وهي تنضج وتكون في أوجها مع زيادة العمر؛ والعلماء الباحثون في بلدنا لا يقفون حجر عثرة في وجه ترقِّي أو توظيف أي من المواطنين؛ لقلة عددهم؛ ولوحدانية وندرة اختصاصاتهم؛ سواء كانوا في الجامعات أو في مراكز الأبحاث..
وبذلك يسهمون، في إيجاد فرص عمل جديدة للخريجين؛ وفي الجبهات الأمامية للعلوم..؛ لا وجود حالياً في أوربا؛ وأمريكا؛ وحتى أمريكا اللاتينية؛ عمر تقاعدي معيّن للباحثين وعلماء الطبيعة؛ وغالبية العمال والموظفين؛ بالرغم من كثرة المنتظرين لهذه المواقع الوظيفية من مواطنيهم؛ لا لسبب سوى معرفتهم التامة؛ بأنه خسارة اقتصادية؛ وعلمية؛ عند الاستغناء عنهم؛ لذا كانت لوائح مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث؛ الكندية الأصل؛ قبل التغيير الذي حصل فيها مؤخراً؛ خير دليل على ذلك..؛ تؤكده صحة نظرة حاضرة الدولة الإسلامية سابقاً؛ والأنظمة المعاصرة للمجتمع الغربي؛ من خلال إحصائية حول أعمار فائزين جائزة نوبل في الفيزياء من سنة 1900 الى2000 ( خلال 100 سنة الماضية)؛ وجد بأن أكثر من الربع (40 فائزاً)؛ أما في الآداب فهم أكثر من النصف (59 فائزاً)؛ أعمارهم تتراوح بين الـ60 إلى 84..
في مجتمعنا الفتى العذري عموماً بحاجة ماسة لكافة مواطنيه لقلة العدد في الاختصاصات عامةً والعلمية خاصة؛ إن الدول المتقدمة بصورة عامة ألغت قوانين التقاعد الإلزامي لفئات عديدة؛ في تصوُّر ثنائي لحقوق الإنسان من جهة؛ وإلى الخسارة المادية والعلمية من ناحية أخرى؛ في التمييز العمري؛ والمملكة العربية السعودية أولى في أخذ هذا التصوُّر؛ وتجعل أمر التقاعد اختياراً فردياً؛ لشرائح متعدّدة هامة للوطن..
إنّ توجُّه المملكة بتوطين وسعودة الوظائف تقوم على أساس الاستفادة من الخبرات الفنية؛ وتدريب السعوديين وليس على الخلاص من الخبرات الفنية النادرة؛ وهي في أوج عطائها؛ وخاصة بعد ما استثمرته الدولة في باحث وعالم عبر السنوات الطويلة حيث أحيل عدد كبير من الباحثين على التقاعد وهم في أوج عطائهم.
نأمل بدراسة مستفيضة لهذه الظاهرة الخطرة ومحاولة إيقافها وتفعيل وسن «قانون التميز العمري» لوظائف المواطنين وجعله من القوانين الأساسية أسوة ً بدول أخرى فاقتنا عدداً وتقدمت علينا علماً واقتصاداً.. من ألحكمة أن لا نخترع العجلة، بل نطوّرها حيث ما وصلت لنا، وبذلك نتطوّر سريعاً... والله الموفق.
watban@hotmail.com