|
نعني بذلك عملية مخطط لها.. يتم من خلالها تمكين أفراد المجتمع من التعرف على أوضاعهم الصحية مع تقديم أساليب المساعدة التي تسهل عليهم اتخاذ القرار المناسب نحو التغييرات السلوكية الطوعية الرامية إلى تحسين وتعزيز أوضاعهم الصحية والمحافظة عليها، تتضمن هذه العملية تمكين الفرد من التعرف على المواقف والقيم والمهارات الحسية، حركية والحياتية و تعزيز ذلك بالمعلومة الصحيحة بهدف تثبيت قناعة الفرد بالتوجه نحو المسار الصحيح لعملية تغيير السلوك.
قد يخطئ من يظن التثقيف الصحي عملية سهلة وبسيطة، كما يزعم البعض بأنها تهدف إلى نشر المعلومات عن طريق المنشورات ووسائل الإعلام، فما هذه الوسائل سواء كانت مطبوعات أو وسائل إعلامية إلا جزء مكمل لسلسلة من الإجراءات التي تسير وفقها العملية التثقيفية للبرنامج التثقيفي.. إن نشر المعلومات عبر الوسائل سالفة الذكر تأتي بعد ثلاث مراحل من مراحل التشخيص للمشكلة أو القضية التي تقع ضمن الأولويات التي يتم تحديدها وتلك المراحل هي:
مرحلة التشخيص الاجتماعي، ومرحلة التشخيص الوبائي، ومرحلة التشخيص السلوكي والبيئي.
ومن ثم تأتي مرحلة التشخيص التثقيفي والتنظيمي للعملية التثقيفية التي تعد الوسائل التثقيفية جزءا منها، ولكن العمل وفق هذه الإستراتيجية لا يجيده إلا أخصائي التثقيف الصحي، قد يلجأ المتخصصون في التثقيف الصحي أو المتدربون على ممارسة هذا التخصص أحياناً إلى استخدام الوسائل التثقيفية المذكورة بشكل مباشر دون الخوض في مراحل التشخيص في حال ظهرت مشكلة طارئة بالمجتمع أو مشكلة يعاني منها المجتمع مثل ؛ السمنة، داء السكر أو ضغط الدم، ورأوا أنها تتطلب تدخلا سريعا فهم يلجئون لمواجهتها بما لديهم من وسائل متاحة لأنهم يفتقدون الإمكانيات الكافية للسير وفق مراحل التخطيط الإستراتيجي ( تشخيص المجتمع).
إن هؤلاء المتخصصين لا يزالون يحاولون ويناضلون بهدف تقديم ما يتسر لهم من أنشطة لخدمة مجتمعهم لإدراكهم مدى الحاجة لهذه الخدمة، ولكن رغم الحاجة الماسة لهذا الجانب الوقائي الهام ورغم ما صرفته الدولة على هذه الكوادر من الأموال الطائلة من أجل إنهاء خمس سنوات تخصصية، إلا أنهم تخرجوا في نهاية المطاف فكانت النتيجة أن نسبة كبيرة منهم لم يعينوا، أما من تم تعيينهم سواء في القطاع الخاص أو في جهة حكومية قد تعينوا على وظائف ليست في مجال تخصصهم.
أخي القارئ.. إن عدم ممارسة أخصائي التثقيف الصحي مهام تخصصه جعلت التوعية الصحية أو التثقيف الصحي كلمة عامة ضاع دورها التخصصي بسبب عموميتها فبدأ كل يحاول ممارستها حتى أصبحت باباً مهلهلاً يلج فيه كل والج.. فمن وجهة نظري لن يكون هناك دور للتوعية ما لم يكن هناك اهتمام بها كتخصص إلى جانب توفير الإمكانيات اللازمة لممارسة هذا التخصص في المواقع المخصصة له ( فهناك مقار خاصة بتوعية العامة، المرضى، الطلبة والطالبات .. الخ ) بالإضافة إلى تخريج المزيد من المتخصصين وتدريب من لهم الرغبة بهذا التخصص لكي يتحقق الدور المنشود من التثقيف الصحي فهو علم من العلوم وليست هواية من الهوايات كما يحلو للبعض تسميتها.. فلو أن إنساناً قال أريد أن أقوم بدور الطبيب أو المهندس لسخر منه الجميع ولكن أن يقول أريد أن أقوم بدور التثقيف الصحي يوافقون دون أدنى تفكير إذاً كيف يكون لسفينة التثقيف الصحي أن تصل إلى جانب البر وعليها ربان ليس من أهلها وهذا حالها.
إن برامج التثقيف الصحي بحاجة لوضعها ضمن إطارها الصحيح ودعمها بالكفاءات المتخصصة والعمل على تهيئة الوضع الوظيفي المناسب للعاملين فيها أسوة بكافة التخصصات الصحية الأخرى.
فلو تأملنا في التطورات الملحوظة في العالم والاهتمام بالوقاية والتركيز على البرامج التثقيفية والتخطيط الفاعل للجهود الصحية وفق استراتيجيات تهدف لتقليص الإصابة بالمرض وتفادي المضاعفات التي أنهكت كافل وزارة الصحة كان لزاما علينا مسايرة هذا التطور وتوجيه جهودنا وفق هذا التوجه العالمي، فنحن في بلد ولله الحمد قادر على مضاهاة تلك الدول المتقدمة، فلدينا بفضل من الله الإمكانيات والكفاءات المؤهلة للقيام بهذا الدور.
لقد قرأت في أحد مواقع الصحة الأميركية أن أكثر من 1.7 مليون أميركي يموتون من الأمراض المزمنة في كل عام، وهو ما يمثل حوالي 70 % من مجموع الوفيات في الولايات المتحدة وتنفق على الرعاية الصحية أكثر من أي بلد آخر في العالم وكذلك أشار التقرير الذي نشرته منظمة الصحة العالمية على موقعها إن نحو 60 % من إجمالي الوفيات في العالم ترجع إلى الأمراض المزمنة غير المعدية، ولو أمعنا النظر في أوضاعنا نحن السعوديين فأننا لسنا بعيدين عن ذلك فلقد نشرت جمعية طب الأسرة والمجتمع على موقعها الإلكتروني أن 17 % من عدد الوفيات في السعودية بسبب جلطات القلب، و59 % من عدد الوفيات بسبب ارتفاع ضغط الدم، بينما 35% من المواطنين يعانون من ارتفاع نسبة الكولسترول في الدم وأن تكلفة علاج الأمراض المزمنة بالمملكة العربية السعودية كما أوضح الدكتور محمد بن عمر باسليمان المشرف العام على إدارة المراكز الصحية المنسق الوطني للجنة الوطنية لمكافحة الأمراض المزمنة في جريدة الشرق الأوسط العدد 9633 تستهلك أكثر من 70 في المائة من تكاليف الخدمات الصحية.
وتؤكد بعض الدراسات التي نشرتها الجمعية السعودية للسكر والغدد الصماء أن نسبة المصابين بزيادة الوزن من النساء والرجال قد تجاوزت 70% من المجتمع السعودي. كما أن نسبة حدوث السمنة في الفئة العمرية 25-64 سنة قد تجاوزت 35 % لدى النساء و28% لدى الرجال ونسبة حدوث السمنة المفرطة قد تجاوزت 50 % من النساء متوسطي العمر في المملكة.
ما النتائج التي سيجنيها المجتمع من ذلك؟ الإجابة، تكاليف علاجية باهظة «تقدر التكلفة السنوية لعلاج المصابين بالسمنة ومضاعفاتها بما يقارب من 19 مليار ريال ـ الجمعية السعودية للسكر والغدد الصماء» وإعاقات، ومشاكل نفسية، ومشاكل اجتماعية، ومشاكل اقتصادية.
ونسب الأمراض التي أصبحت تمثل مشاكل صحية بالمملكة في ازدياد فأنا لم أستطرد في ذكر نسب السكر والضغط والسرطانات وغيرها الكثير ولكن أعتقد أن ما ذكر كافي لإيصال الرسالة يبقى أن أذكّر بأن الحل الوحيد للمواجه هو التثقيف الصحي الذي يقع في المقام الأول ضمن مهام الطب الوقائي والرعاية الصحية الأولية وهذا ما جعل معظم الدول الأوروبية تتجه نحو تفعيل دور الطب الوقائي وتطوير الأداء بالرعاية الصحية الأولية إلى جانب خلق الشركات مع القطاعات ذات الصلة بالعوامل والمؤثرات في الصحة (المبادرات المجتمعية الأساسية CBI).
إن صب الاهتمام على مرحلة ما بعد المرض لا يمثل حلاً للمشكلات الصحية، ولا للحد من مسبباتها، فإننا بذلك قد تناسينا الجانب المهم (الطب الوقائي) الذي يهدف إلى منع حدوث الأمراض ومضاعفاتها, ذلك الفرع الذي يهتم في توقع الأمراض ومن ثم يتخذ الإجراءات اللازمة لمنعها بإذن الله قبل حدوثها كما يهدف إلى رفع المستوى الصحي لدى المجتمع، ومن أهم المهام الموكلة إلى الطب الوقائي الوقاية من حدوث الأوبئة والتدخل السريع حين حدوثها لمنع انتشارها والتقليل من أضرارها وتحسين الصحة العامة للمجتمعات البشرية، الحفاظ على جودة الحياة للأشخاص الأصحاء والمرضى.
فكما أكد مركز التحكم بالأمراض CDC في هذه العبارة الشهيرة:
For every dollar spent on health education, society saves more than $13 in direct cost, such as medical treatment, addition counseling, alcohol-related motor vehicle injuries and drug related crime, and indirect cost, such as lost productivity due to premature death and expenditures associated with teen pregnancy (CDC, 1997)
لا يسعني في النهاية إلا أن أناشد المسئولين في وزارة الصحة ووزارة المالية ووزارة الخدمة المدنية ووزارة التعليم العالي .. إعادة النظر في وضع التثقيف الصحي (التوعية الصحية) بالمملكة بأن تصبح إدارته إدارة عامة لتكون قادرة على القيام بهذا الدور الكبير وأن يدرج مسمى أخصائي تثقيف صحي أو أخصائي تعليم صحي ضمن لائحة التخصصات الصحية إلى جانب ضرورة فتح باب الدراسات العليا للتثقيف الصحي.
* حمد بن خالد الخويلد - أخصائي التثقيف لصحي