يبدو السؤال فجاً ومباشراً ومثيراً للحساسية الطائفية التي يحاول السوريون اليوم أن يخصفوا من ورق الوطنية كي يستروا عورتها ويداروا ما خفي من مخاطرها، متكئين على تاريخ طويل من التعايش السلمي بين الطوائف والأديان والأعراق منذ الفتح الإسلامي حتى اليوم، مروراً بتقلبات الدول والولاة.
وإذا أردنا استجلاء المشهد السوري، فلا بد أن نقف على الأرضية التي ينطلق منها النظام حين يتحدث إعلامه عن حرب أهلية وشيكة بين أكثرية وأقلية، وهو الذي يحرّم على أي سوري أن يتساءل - ولو في سرّه- عن سبب انتماء كبار الضباط المهيمنين على مقدرات البلاد وقراراتها إلى طائفة بعينها، بينما تتقاسم الطوائف الأخرى وظائف شكلية لا تحرك عسكرياً من ثكنته ولا مدنياً من سجنه!
وهذا يقود إلى تحليل بنية النظام الذي اعتمد - حتى قبل انقلاب آذار عام 1963م- على توازنات طائفية بدأت بحلقة تضم ضباطاً من طوائف الأقليات في لجنة عسكرية سعت إلى وأد الشرعية الديمقراطية الوليدة والاستيلاء على السلطة بالقوة، وانتهت بقصرٍ تحتمي فيه عائلة حاكمة ترهن مصير طائفة كاملة لخدمة مصالحها في علاقة تراتبية معقدة لا ينجو منها حتى المسؤولون من الطوائف الأخرى الذين ولغ بعضهم في الدم واستأثر بعضهم بالتجارة وانغمس آخرون في الفساد، فاشتركوا جميعاً في أوزار الحرب على الشعب.
وبالعودة إلى بدايات حكم البعث، يشهد الرئيس السابق أمين الحافظ أن تسريح الضباط في فترة حكمه (1963-1966م) كان ذا صبغة طائفية بحتة انحازت فيها اللجنة العسكرية إلى أقليات بعينها (الإسماعيلية والدرزية والعلوية)، وهذه شهادة مقبولة في ميزان التأريخ لأن صاحبها يعترف بمسؤوليته عن هذه الإجراءات التي أفرغت الجيش السوري من عناصر الكفاءة والخبرة وأدت إلى هزيمة مذلة في حزيران 1967م.
وبعد الانقلاب الذي قاده صلاح جديد على الحافظ (1966م)، بدأت تصفية أخرى للجيش تخلص فيها جديد من عناصر القوة في يد الطائفتين (الإسماعيلية والدرزية) واستبقى القيادات العلوية في مراكز التحكم والنفوذ وفتح الباب واسعاً أمام انضمام العلويين إلى الجيش (حتى من المدرسين وأرباب المهن الحرة!).
ولأن الدائرة الطائفية تضيق ولا تتسع، انقلب حافظ الأسد على صلاح جديد، وبدأ في تصفية العناصر المحسوبة على جديد (من العلويين)، واصطفاء الضباط الموالين للأسد الذي كان أكثر دهاءً في ترسيخ حكمه معتمداً على أسماء مختارة بعناية من أبناء الطائفة في قيادات الجيش والمخابرات، إلى جانب تشكيلة باهتة من ضباط الديكور والزينة (مصطفى طلاس وناجي جميل..)، بالإضافة إلى تحالف وثيق مع التجار السنة الذين كانوا يطمحون - كحال كل التجار- إلى «الاستقرار» الضروري لانتعاش أعمالهم بغض النظر عمن يفرض هذا الاستقرار وبأي شكل.
واستمرت سوريا محكومة بهذه التركيبة الطائفية خلال عقود الأسد الأب الذي وضع ثقته المطلقة في ضباط علويين (علي دوبا، علي حيدر، شفيق فياض، إبراهيم صافي..) ينشرون الرعب في نفوس المواطنين، وكان نطق اسم أحد هؤلاء كافياً كي تتوقف الدماء في العروق، ثم تحولت اللهجة الساحلية اللطيفة من عنصر تنوع جميل إلى وسيلة إرهاب ارتبطت في الذهن الجمعي بالتسلط والظلم والقمع.
ثم ضاقت هذه الدائرة في عهد الابن، فانتقلت الطائفة من كونها قاعدة عريضة للحكم يستقوي بها السلطان ويهشّ بها على شعبه، إلى أداة بيد العائلة تسيّرها حيث أرادت أهواء الثلاثي الحاكم (بشار وماهر وآصف)، بمعونة رامي مخلوف، الذراع الاقتصادية في الداخل والخارج.
ويحاول النظام اليوم أن يورّط الطائفة في المأزق الذي وجد نفسه فيه، إذ يتعمّد أن يستورد الشبيحة من قرى الساحل وريف حماة (ربيعة وغيرها) لتوجيه الغضب الشعبي نحو الطائفة ودفع المتضررين من الأهالي إلى ممارسات انتقامية تفسد أجواء الثورة وتحرفها عن وجهتها الأساسية لتتخذ منحى يبيح للنظام استخدام العنف لمواجهة «حرب أهلية».
واليوم يدرك العلويون المتحررون من قبضة النظام أبعاد هذه اللعبة التي زجوا فيها عنوةً، ويدرك السوريون بكل ألوانهم وانتماءاتهم تعقيدات مجتمعهم، وهم يفرّقون بين المجرمين من أعوان النظام وبين جيرانهم العلويين الذين يقتسمون معهم رغيف الجوع والألم، فالشبيحة - أياً تكن انتماءاتهم - هم أشباه بشر مبرمجون على القتل، ولم ينالوا حظاً من التعليم والتحضر، والعلويون منهم غسلت أدمغتهم وحشيت بأوهام الحاضر عن عصابات مسلحة تريد الفتك بطائفتهم، وهواجس التاريخ عن «الاضطهاد» الذي عانى منه العلويون، وهذه خرافة أخرى فنّدها إبراهيم الجبين في مقالة بديعة بعنوان (خرافة الهولوكوست العلوي).
هؤلاء جميعاً، الضالعون في الدماء، والمتورطون في التعذيب، والمتسببون في الاعتقال، سيحاكمون فرادى في سوريا الغد، مهما بلغت أعدادهم، ومهما كانت انتماءاتهم، وأياً تكن مبرراتهم، وهذه قناعة راسخة لدى الشريحة الأكبر من الثوار والمعارضين الذين أثيرت حولهم مؤخراً شبهة التكتم على أسماء العلويين الناشطين والمعتقلين، وهي تهمة تدحضها مؤشراتٌ واضحة للعيان، منها تسمية إحدى الجمع باسم (الشيخ صالح العلي)، والاحتفاء الكبير بالمقاطع التي تظهر مشاركة علويين في الحراك الشعبي في مناطق متفرقة من البلاد، والضجة التي أثارتها صفحة الثورة السورية ابتهاجاً بالضابط العلوي الذي انشق والتحق بالجيش السوري الحرّ، واللافتات التي يرفعها المتظاهرون في كل مكان: (العلويون سوريون مثلنا.. لهم ما لنا، وعليهم ما علينا).
وإذا عدنا إلى السؤال الذي تصدّر المقال، فإن الجواب لن يكون سهلاً إلا لمن يفضلون أن تكون الفرضيات جاهزة ومباشرة، ولا سيما أن السوريين حرموا -علانية على الأقل- من التدقيق في هذه المشاهد عقوداً طوالاً، لأن مناقشتها تشبه المشي في حقل من الألغام، مع أن الحديث عن الطائفية ليس بالضرورة نزوعاً نحوها، وبهذا تكون أقرب الإجابات إلى الواقع أن الأسد ليس علوياً، بل أسديّ، وأن سوريا اليوم تضم أربع طوائف، طائفة تُقتل، وأخرى تَقتل، وثالثة تؤيد القاتل، ورابعة تتعاطف بصمتٍ مع الأولى، وقد يكون هذا التقسيم الصارم قاسياً على الرابعة، إلا أن الصمت لم يعد خياراً محدود المسؤولية، بل أصبح عاراً من الدرجة الأولى.