تنتاب العمالة ووزارتها أقلامٌ ثائرةٌ وأَلْسنةٌ مائرةٌ, ومن كثرة المساس قلَّ الإحساس, وأصبح غير مجدٍ في المشهد العمالي نوح باك ولا ترنم شادي. ولما لم أجد بداً من الخوض في لجج المشكلات قراءةً ومعايشةً, تذكرت مقولة: «لعلَّ له عذراً وأنت تلوم»، وكدت أرفع قلمي وأطوي صحفي, وألتمس قضية فكرية أو سياسية أخرى, لأكون كمن يداوي نفسه بالتي كانت هي الداء.
غير أن الوزارة والعمالة تتمخصان كل ساعة عن دويهية تصفر منها الأنامل, ولا أحسب أن أحداً يجروء ممن يحمل هموم أمته على السكوت, بعدما يرى ويسمع, لأنه من الشيطنة الخرساء, ولا سيما أن الصحف المحلية تطالع القراء بفيوض القول عن مشكلات العمالة وهي بحاجة أشبه بخبط العشواء, ومع هذا فليس هناك بوارق أمل لحلحلة المشكلات النامية بعشوائية والمستشرية بفوضوية, ولربما يسهم الكتاب في تعقيد القضايا, ذلك أن منهم متسرعين ومبالغين ومرتجلين, والمقدمات الخاطئة تؤدي إلى نتائج خاطئة. ومما أدركنا من كلام الحكماء:- «إذا أردت أن تطاع فاطلب ما يستطاع».
ومن المؤكد أن هناك مشكلات كقطع الليل المظلم, من العمالة ومن الوزارة, ومن المواطنين, واختلاط المشكلات وتداخلها يتطلبان فرق عمل مدربة, لإعادة ترتيبها, وفك الاشتباك فيما بينها, ومن ثم مباشرة الدراسة الموضوعية والمنهجية, ووضع الحلول المرحلية أو الناجزة, والمقدور على تنفيذها, وأي مشكلات نمت مع الزمن, وتوفرت لها الأجواء المناسبة بحاجة إلى زمن مماثل لحسمها, وتوفير أجواء ملائمة للقضاء عليها, فالمسؤول لا يملك عصى موسى, ولا عفاريت سليمان, ولا قوة ذي القرنين, وأي جرح يرمُّ على فساد, يتبين من خلالة إهمال المسؤول, ولابد له من لحظة انفجار رهيب ونزيف مزمن, يضيق معهما نطاق الخيارات. وبين يدي حديثي لا أجد حرجاً من استدعاء الخطائين, ووضع النقاط على الحروف.
والخطاؤون ثلاثة:
- العامل والمسؤول والمواطن. وما لم يدرك الخطاؤون أنصبتهم من ركام المشكلات فإن القضية سيضيع دمها بين قبائل المتنصلين والمواطئين على الخطايا. الشيء المؤكد أن السلطتين:- التشريعية والتنفيذية تودان إصابة المحز, وحماية المستهدف من أي خطأ يقع عليه, والمؤكد أن منشئ الأنظمة يود أن تنفذ, وأن يكون مقدوراً على تنفيذها, غير أن العمالة والمواطنين في سباق محموم للتحايل على الأنظمة, و»وزارة العمل» بوصفها المصدر والمورد لا يمكن أن تنهض بمهماتها على ضوء إمكانياتها المتواضعة, ولن يتأتى لها أن تشفي صدور المتأذين من تفاقم المشكلات, وهي بهذا المستوى وبتلك الإمكانيات, وهي بوضعها الحالي معذورة, فكيف يتأتى لها بإمكانياتها البشرية والمادية أن تحكم قبضتها على «عشرة ملايين» وافد, وآلاف المتسللين والمتخلفين والهاربين والمتسترين ومثلهم معهم من المستفيدين, ولاسيما أن المواطنين وذوي النفوذ يمارسون الاحتيال, ويتلمسون ثغرات الأنظمة واللوائح, ولا يصدقون الحديث معها, وما لم تكن الوزارة قوية وقادرة ومنتشرة ومتصالحة مع المستفيدين ومعتمدة على أنظمة واضحة ومحددة فإن المشكلة ستتفاقم, وقد يمتد الخلاف, ويتسع حتى يمس القضايا السياسية بين المملكة ودول العمالة. ولقد بدت بوادر ذلك, وبخاصة حين تدخل الإعلام المتوسل بالإثارة, واستغل بعض الوقوعات العارضة, لتهييج الرأي العام, وتحشيد مشاعره. وما يعانيه المواطن من شح في العمالة المنزلية إن هو إلا ناتج التدخل الإعلامي, وتضخيمه لبعض القضايا, ولو كانت «وزارة العمل» في مستوى مسؤوليتها, لكان بإمكانها أن تئد المشكلات في مهدها, ونحن هنا لا ننحي باللائمة على طرف من الأطراف, لا على العمالة, ولا على الوزارة, ولا على المواطن, ولكننا نود أن يعترف كل طرف بدوره في المشكلات, ذلك أن التنصل لا يوقف إندياحها في كل الاتجاهات, واستفحال المشكلات وتناميها مؤشر على أن هناك أخطاء مجهولة أو غير مقدور على تلافيها, لنقص في الأجهزة أو خلل في الأنظمة أو قوة في الطرف الآخر, وفي الدعاء:- {اللهم إني أشكو إليك ضعفي وقلة حيلتي وهواني على الناس}. فهناك ضعف في البنية, وقلة حيلة في الممارسة, وقوة في الطرف المستهدف تجهض أي محاولة للإصلاح.
ومما يصعد الإشكاليات أن العمالة تفد إلى البلاد, وقد وعت الثغرات, وأتقنت أسلوب التخفي, وعرفت طرائق الكسب المشروع وغير المشروع, بل عرفت المناطق والقطاعات ومستوى الجدية فيها, وهي قد انفقت كل ما تملك, لكي تصل إلى البلاد, وحين لا يرضيها الكسب الحلال, تحتال للكسب غير المشروع, ومن الشركات والمؤسسات والأفراد من لا يَقْدر على صرف الاستحقاقات في حينها, ومنهم من تكون الرواتب عنده دون الكفاية, ومن ثم لا يجد مانعاً من عمل مكفوليه في وقت راحتهم, لسد احتياجاتهم, وكفهم عن التظلم, والأسواق مليئة بالعمالة السائبة التي تعمل في الصباح بضع ساعات, لا تفي بالحاجة المطلوبة في المؤسسات كالبلديات والمستشفيات والجامعات وسائر القطاعات, ثم تنطلق لممارسة الأعمال الحرة هنا وهناك, والمتابع يلحظ الإرهاق والاسترخاء واللامبالاة في أوساط العمالة في الدوائر الرسمية, لأنهم يرهقون أنفسهم في ساعات راحتهم. ومن ثم لابد -والحالة تلك- من أن تكون هناك متابعة وإشراف, وليس هناك ما يمنع من صرف رواتب العمالة من قبل المؤسسة الرسمية, وتحسم الرواتب من أساس العقد في نهاية كل فترة. وإشكالية أخرى تتمثل بالمؤسسات الوهمية, التي تزوِّر العقود, وتستقدم بها الحرفيين والمهنيين, ثم تتركهم يعملون لحسابهم, على أن يدفعوا للكفيل مبلغاً رمزياً, قد لا يتجاوز «مأتي ريال» عن كل شهر من كل عامل, وهذه ظاهرة يعرفها القاصي والداني, وما لم يكن هناك متابعة ومحاسبة فإن الخَرْق سيتسع على الراقع.
إن هناك تلاعباً واضحاً, وكسباً غير مشروع, وظاهرة الفساد بادية للعيان, ولا يمكن احتمالها, وفوق هذا فإن هناك تداخلاً في المسؤوليات بين قطاعات حكومية تتيح الاتكالية والتنصل, وهذا التداخل لم يتح لأطرافه التنسيق, بل ترك الأمر على البركة.
وعشرة ملايين مقيم لا يمكن ضبط إيقاعهم بما هو قائم من الإمكانيات المتواضعة, فوزارة بحجم «وزارة العمل» لا تشفي صدور قوم متأذين من تعدد المشكلات وتناميها, ولو مورست الشفافية, لبدت سوءات لا يمكن احتمالها.
(يتبع)