في مجتمعنا عادةً ما نغرق في التفاصيل اليومية الدقيقة، ونراجع عن كثب وقرب كل ما يدور حول مصطلحاتنا الكثيرة والمتناثرة من أجل تقويتها وبث دماء النشاط والحيوية فيها حتى وإن كانت أسمالاً لفظية بالية وغير مجدية ويندر وجودها في العالم من حولنا.
ومن أدق التفاصيل وأكثرها حضوراً هو نعت البعض بأنه «ذئب» كناية عن حذره ونجاعة مغانمه حتى وإن كانت من قبيل الاختلاس أو نهب المال العام، أو «حمار شغل» كناية أيضاً عن جده واجتهاده وعمله الدؤوب، أو «ثور الله في برسيمه» وهذه الصفة أليمة لأنها تسم أي شخص بأنه غافل مسالم، مع تغييب واضح لهياج وثورة ذلك المخلوق الذي وصف به، أو «حمامة مسجد» بادعاء طوالع طهر وملازمة للمسجد وهي كناية عن مظهر التقى.
وما دامت القائمة تطول حول هذه النعوت والكنايات التي يتداخل فيها كل ما هو آدمي بما سواه من مخلوقات وفق منطق يدّعي تطابق الأثر على الحافر بالصفة والشكل والمضمون.. لا بد أن نقف عند صورة «الحمامة» في واقعنا الاجتماعي، حيث يُنظر إليها بقاموسية متعددة الأوصاف والدلالات، بعضها واقعي معروف والآخر خيالي ينم عن رغبة في التسلية.
فالحمامة كونها طائراً وادعاً ولطيفاً، تجسد الجمال في الطرب الغنائي في حالات كثيرة.. وكم من قصيدة مجلجلة الحضور في الذاكرة والذائقة تتخذ من الحمامة مادتها وصلب رسالتها.
وحضور الحمام قوي ومؤثّر في الحكاية الشعبية والأثر، بل يضرب به المثل، حيث دوّنت الكثير من الدراسات والبحوث والمؤلفات حول هذا الطائر اللطيف وأبرزها «طوق الحمامة» للعلاَّمة ابن حزم، وكذلك رحلتها في النقل والمواصلات على نسق حمل «رسائل البريد» بما يُعرف بالزاجل حينما كانت مكلَّفة بنقل الوصايا والتعليمات وحتى التعاميم لكتَّاب الولاة في أركان الدول فيما مضى.
الشاهد المهم في أمر الحمامة وحضورها هو دخولها القوي في التقويم السلوكي للشخص ومحاولة إظهار تدينه وورعه حينما يُقال عنه إنه «حمامة مسجد» كناية عن التقى وملازمة المسجد، محاكاة لما تفعل الحمامة حينما تراها في كل جزء منه، متممة لمشهد الوئام وعاكسة شعور الألفة والأمان.
فهب أن شاباً تقدَّم لأسرة ما بقصد الاقتران بفتاة فمن الوارد أن تدخل تفاصيل الحمامة في الأمر من خلال السؤال عنه، فحضورها ليس من أجل الغناء، أو من قبيل الطرب، أو الرسائل إنما من قبيل التوصيف للخاطب الذي يقترب من المبالغة عن مدى تُقاه وورعه، إذ لا يتورع الواصف أن يذكر الموصوف بأنه «حمامة مسجد».
hrbda2000@hotmail.com