عندما كنتُ طفلاً كانت مشاعر الانتماء إلى أمة عربية مسلمة واحدة راسخة في نفوس الجيل، وكان من أشهر الأناشيد التي ينشدها التلاميذ في المدارس أنشودة:
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن
إلى مصر فتطوان
فلا حد يباعدنا
ولا دين يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا
بقحطان وعدنان
ولأن تلك المشاعر كانت راسخة في النفوس كان لفاجعة الأمة بنكبة فلسطين عام 1948م أثرٌ بالغٌ في تلك النفوس، خيبة أمل وتحطم معنويات. على أن انطلاقة الثورة الجزائرية المجيدة عام 1954م كانت مبعث أمل سرعان ما تجلت بوادر ثماره بانطلاق عمليات الفدائيين الفلسطينيين من قطاع غزة ضد الاحتلال الصهيوني عام 1955م، ثم تجلت أكثر فأكثر بوقوف العرب مع صمود مصر، قيادة وشعباً، أمام العدوان الثلاثي عام 1956م. وبلغ الأمل مداه في النفوس بقيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958م، وهي الوحدة التي أشرت إلى سروري بمرور عام على قيامها في قصيدة من أبياتها:
أمتي زفَّت إلى هام العلا
وحدة رفَّت على القطرين عاما
يخفق النصر على ساحاتها
باسم الثغر طروباً مستهاما
نفحات النيل هزَّت بردي
فمضى يلقي على النيل الخزامى
والتقى الإخوان من بعد النوى
ودموع البشر تنهل انسجاما
وفي ظل تلك الظروف الباعثة على التفاؤل، وابتداء من انطلاقة الثورة الجزائرية، كتبت قصائد عدة مشيداً ومفتخراً بتلك الثورة المجيدة. ومن ذلك ما ورد في إحدى تلك القصائد، التي كُتبت عام 1955م:
وليوث الأوراس خير مثال
لبطولات أمتي غير حدس
تتحدى جحافلاً حشدتها
ضدها طغمة العدو الفرنسي
لن تكف النضال ما لم تطهِّر
موطن العز من خنا كل رجس
ومن ذلك ما ورد في قصيدة أخرى كُتبت في ذلك العام نفسه:
وشعب الجزائر بين الورى
علا صيت أبطاله واشتهر
أبي أن يبذل لجور الطغام
وأن يستكين لحكم الغجر
وأقسم أن لا يكف الجهاد
إلى أن تولي فرنسا الدبر
وقصف المدافع في مسمعيه
لحون الحياة ورجع الوتر
وبالحق صال على المعتدين
ولا بد للحق أن ينتصر
وصالت فرنسا بظلم الطغاة
ولا بد للظلم أن يندحر
ولقد انتصر الحق، واندحر الظلم؛ ذلك أن الثورة الجزائرية:
مضت شهيداً يغذيها فيخلفه
مَنْ بَرَّ بالوعد إقداماً ومقتحما
حتى علت في صباح النصر أولية
جذلى تقبِّل أرضاً حُرَّة وسما
ولقد سنحت لي الفرصة كي أسعد بزيارة الجزائر.. بلد الفداء والبطولات.. مرات عدة، كانت إحداها بدعوة كريمة من وزارة المجاهدين، بالتنسيق مع اتحاد الكُتّاب الجزائريين؛ وذلك بمناسبة مرور أربعين عاماً على الاستقلال؛ فألقيت قصيدة في تلك المناسبة بعنوان (أنشودة المجد). ومما ورد فيها إشارة إلى ماضيها المجيد فكراً وجهاداً:
أنشودة المجد.. يا أنشودة صدحت
بها ملايين عشاق العلا نغما
عشقت، منذ الصبا، مغناك ملحمة
من الإباء وسفراً يزدهي شمما
صحائفاً ناصعات الذكر أسطرها
سمت حروف جهاد وارتقت كلما
كان الأمير.. وما كانت بطولته
إلا المنار بدرب النصر والعلما
وكان فكر ابن باديس بدعوته
إلى الأصالة فكراً يحفز الهمما
قطبان في فلك التاريخ كم سعدت
غُرُّ الكواكب بالتطواف حولهما
وفي أواخر شهر نوفمبر الماضي أُتيحت لي فرصة أخرى بأن أسعد بتجديد اللقاء مع ذلك القطر الجميل بما عليه، والأجمل بمن عليه. وكان ذلك في إطار الملتقى الخليجي المغاربي الخامس، الذي تذكر فتشكر دارة الملك عبدالعزيز بريادتها في إقامته، والذي تم انعقاده في هذه الدورة في رحاب جامعة تلمسان، بالتعاون مع وزارة الشؤون الدينية والأوقاف في الجزائر. فقد أُضفي عليَّ رداء الإكرام بأن دُعيت إلى المشاركة في ذلك اللقاء، وزيد في إكرامي بأن أُتيحت لي الفرصة كي أتحدث في حفل الافتتاح، أصالة عن نفسي ونيابة عن زملائي من المشاركين والمشاركات؛ للتعبير عن الشكر الجزيل على الدعوة، وعلى الحفاوة التي أسبغها الداعون على الجميع. وقد بدأت كلمتي بعد السلام والتحية قائلاً:
قيل أين المسير؟ قلت: لأرض
يبهج القلب سحرها التلمساني
إن هذا اللقاء العلمي حلقة من سلسلة لقاءات المؤتمر البحثي الخليجي المغاربي، الذي تبذل دارة الملك عبدالعزيز جهوداً مشكورة واضحة في استمراريته بالتنسيق مع الجهات المعنية بالبحوث في الدول الخليجية والمغاربية. وإن من التوفيق أن يُعقد اللقاء في رحاب جامعة أبي بكر بالقايد الموقرة في تلمسان، التي أهَّلها ماضيها المجيد، المعتز به حاضرها الزاهر، أن تكون عاصمة الثقافة الإسلامية هذا العام، المدينة الجميلة عمراناً وحضارة والأجمل سكانها، لطفاً وكرماً وأريحية.
ثم أشرت إلى ما لماضي الجزائر من مكانة رفيعة في نفوس العرب والمسلمين، وما لحاضرها المعاصر من فضل مقدَّر كل التقدير على حاضر أمتنا؛ وذلك بثورتها المجيدة التي بعثت الأمل في النفوس بعد أن كاد اليأس والقنوط يسيطران عليها. واختتمتُ كلمتي بالقصيدة، التي سبقت الإشارة إلى أني كتبتها بمناسبة مرور أربعين عاماً على استقلال الجزائر.
وإلى اللقاء إن شاء الله في الحلقة القادمة.