من المخطئ ومن المصيب منا مواطنين ومسؤولين، أو كتّاباً وأكاديميين؟ الكثير من أفراد المجتمع بمواطنيه ومسؤوليه ما إن يقرؤوا مقالات لكوكبة من الكتّاب والأكاديميين يطرحون فيها رؤاهم وتصوراتهم حول بعض القضايا،
أو يتناولون أداء بعض المؤسسات الرسمية والخاصة إلا وتعالت أصوات البعض منادين بالتوقف عن تصيّد أخطاء المجتمع الفردية منها والمؤسسية، ومحاولة تضخيمها لجعلها قضية، أو حتى ظاهرة مؤرقة تنذر بنتائج كارثية وهي ليست كذلك البتة، والتعامي عن النظر إلى نصف الكأس المليئة التي تظهر تحقق الكثير تجاه القضية المطروحة للنقاش الذي تحاشت وغفلت عين الفاحص عن النظر إليه ملياً، والتوقف حياله بإنصاف ونظرة متجردة من حسابات مسبقة.
والكتّاب في المقام الآخر يردون في المقابل على هذا الطرح بقولهم: نحن أمام معلومة موثقة ومدعومة بالرقم، والممارسة الفعلية، ونحن فوق ذلك هدفنا لفت الانتباه إلى مشكلة قائمة، وتقديم طرح بنّاء يراد منه تصحيح مسار العمل في تلك المؤسسة، وتوجيهه الوجهة الصحيحة، والإشارة إلى موطن الخلل، وتقديم النصح، وعرض الحلول العملية التي قد تسهم في تقديم حلول مقترحة للقضية، أوالمشكلة المطروحة، ومن ثم الرفع من أداء العمل في هذه المؤسسة أو تلك. ونحن في عملنا هذا دافعنا هم الوطن وقامته الباسقة، والحرص على خلق أرضية مناسبة لتحقيق رفاهية مواطنيه، وإيجاد وطن شامخ يزهو ويفتخر فيه أبناؤه بمنجزاته التنموية المفصلية، وتلك - في رأينا - أهداف سامية هي في الواقع من جعل أقلامنا تسيل رغبة في الكتابة، ولم نمارس فعل الكتابة بهدف تلقف سقطات، وأخطاء، ومحاولة إثارة البلبلة حولها، وتأليب المجتمع تجاه من ارتكبها، وفي أحيان إلى تأجيج مواقف سلبية تجاه قضايا إستراتيجية حساسة نظراً للحسابات والمعالجات الإعلامية الخاطئة.
وفي تقديري أنّ كلا الفريقين مدفوع برغبة واعتقاد يسيّره باتجاه معين يرى أنّ الصواب والحق معه، فالفرق المعترض على تعرية المشكلة، ولفت انتباه الرأي العام تجاهها يرى أنه ما دام أنّ الأمور في ظاهرها سائرة، أو مسيّرة فيجب ألاّ نعترض طريقها، وهم مع الرأي القائل بالابتعاد قدر الإمكان عن التأليب الجمعي، ومحاولة إثارة المشاكل، والوقوف عند هفوات هنا وهناك غير مستحقة لصرف النظر باتجاهها، والرغبة في تصيد أخطاء ثانوية لا تخدم هدفاً عاماً.
ومن يرى خلاف ذلك يرى أنّ الحراك، والتغيير، والسعي نحو الأفضل لا يأتي عن طريق السكوت على الخطأ، وغض الطرف عن الكشف عن السلبيات والنواقص، وإنما هو ثمرة تبادل الأفكار والمقترحات حيال مواطن الضعف والخلل التي تعيق مسيرة مشروعاتنا التنموية التعليمية منها، والاقتصادية، والثقافية، والسياسية، وغيرها في العديد من المجالات الحيوية.
وهذا التجاذب بين من يريد الإصلاح ويعبر عنه بطرح رؤاه كتابياً، وبين من يريد عدم كشف المستور ويعبر عنه برفض ومهاجمة من يكتب، يقود إلى قضية أبعد وأشمل تتعلق بكيفية تناولنا ومعالجتنا لقضايانا الحيوية، وكيفية التجاوب والتعبير عن الاختلاف مع من قام بتناول القضية وطرحها أمام الملأ.
انطلاقاً من مبدأ أنّ الإصلاح هدف سامٍ والقلم بمثابة أحد وسائل تحقيقه على أرض الواقع، فعلى كتّابنا ومثقفينا ملاك تلك الأقلام وروّاد التنوير في المجتمع السعي دوماً حين معالجة قضايانا وهمومنا بقدرٍ عالٍ من الموضوعية، والتروي، والتركيز؛ وذلك عن طريق استقصاء جميع جوانب القضية، وحصر جوانبها، واستيفاء كل ماله علاقة بها، ومن ثم طرح حلول واقعية عملية لها.
وكتّابنا أيضاً مطالبون بعدم الاستسلام للتفاعل العاطفي مع القضية المطروحة على حساب نظرة متوازنة عقلانية، ومن هنا فهم بحاجة إلى أن يكونوا حياديين في طرحهم، وأن يبتعدوا عن الأهواء ومحاولة تحقيق انتصار ذاتي من خلال طرح القضية المطروحة.. ومن المهم أيضاً في هذا السياق عدم التسرع، وإصدار الأحكام قبل التثبت، والإلمام بكل أبعاد القضية المطروحة، وعدم الخوض في مجالات ليست ضمن تخصصاتهم. وبالجملة فكتّابنا بحاجة إلى توخي الدّقة والموضوعية عند التعرض للعمل المؤسس بقطاعيه العام والخاص والابتعاد عن الانتقاد لمجرد النقد، والإثارة، وتحقيق مكاسب شخصية. والرغبة في بناء مجد ذاتي على حساب الحقيقة، وممارسته عملية التسطيح، وفبركة الحدث أكثر من شرحه وتفسيره كما هو للرأي العام، والرغبة في إحراج المسؤول أمام المتلقي ومهاجمته ليضفي على نفسه صفة الجرأة في الطرح. وهو بذلك ينأى بنفسه مسافات عن المعايير الأخلاقية والمهنية الإعلامية العالية المتمثلة بالحصانة، والمصداقية، والتوازن في نقل الحقيقة، والعقل على الاقتراب من مصادر المعلومات، ونقلها وفق معايير الدقة والشفافية، وعدم الخلط بين الخبر والرأي، والالتزام بالنزاهة، والموضوعية، وتقديم الحقائق مجردة
وعلى المتلقي لتلك الأطروحات - بما في ذلك مسؤولون وأفراد - التعامل معها من منظور حضاري يقدس النقد البناء، ويجلّه، ويبتعد عن القدح بشخص قائله ومحاولة الانتقاص من قيمة طرحه بالرغم من صدق وعقلانية رأيه فيه.
وأمام ذلك كله هناك جملة من الخطوات العملية التي يحسن بالمتلقي استحضارها حين التعاطي مع الرؤى المطروحة التي ربما تخالف ما يود سماعه أو قراءته. فينبغي أولاً أن نحاول قدر الإمكان فهم مغزى وما يريد الكاتب إيصاله لنا من خلال مقالته، وبذلك نكون قد ابتعدنا خطوة عن النظر لها من خلال عدسة النقد السلبي والتعامل معها من خلال حكم مسبق. والخطوة التالية تتطلب السعي للاستفادة من الطرح المضاد وذلك من خلال محاولة التأكد من دقة ورصانة وجهة النظر المطروحة، والنظر فيما إذا تمت الاستعانة بمعلومات موثقة، وهل الكاتب يحاول في تناوله للموضوع الانتقاص والتشفي، أو أنه في واقع الأمر يقدم طرحاً ومعالجة إيجابية هدفها الإصلاح، وعند الوصول إلى قناعة تامة بصدق الطرح ودقته، ينبغي أن ننتقل إلى خطوة إيجابية أخرى محاولين فيها قدر الإمكان الاستفادة مما ذكره الكاتب والشروع من الغد بتفادي الخطأ الذي أشار إليه، والعمل على تبني الأفكار البنّاءة التي اقترحها. وفي حالة التوصل إلى مغالطة الطرح وعدم دقته، ورغبتنا في التصدي له فعلينا دوماً الابتعاد عن التشكيك في النوايا، ومهاجمة صاحب الرأي في شخصه، وإنما يجب أن نرد بالمعلومة والرأي الأكثر ملامسة لواقع الموضوع المطروح للنقاش.
إنّ ما نوده من كتّابنا ومثقفينا تذكر أن هناك شعرة رفيعة بين النقد الهادف والبناء، وبين النقد الهادم وغير العقلاني، وإن على مسؤولينا ومستثمرينا إدراك أن المصلحة الوطنية تعلو بكثير ومقدمة على المصلحة الشخصية. وعلى الجميع دوماً تذكر أن التمجيد والاتهام من غير حق أمر يجب أن يكون خارج حسابات العمل الإصلاحي. كما أن على الجميع التجاوب والعمل بموجب معطيات مستحقات المرحلة المصطبغة يتنامي مناخ إعلامي منفتح شعاره الوضوح والشفافية، والاعتراف بالخطأ، وتحمُّل المسؤولية بشجاعة، والمهنية العالية، و المعلومة والخبر الصحيح، والتحليل، والمصداقية، الدقة، والحيادية، والحرية الإعلامية، والتوازن في الطرح، والنزاهة الإعلامية، وفي ظل المتغيّرات الاقتصادية، والاجتماعية، والانفجار المعرفي الهائل، والثقافية، بل وحتى التكنولوجية.
alseghayer@yahoo.com