فقد الحرفُ الجميلُ واحداً من راياتِه عن عمرٍ يناهز المائةَ عام، ذلكم هو الأستاذ الكبير عبدالكريم بن عبدالعزيز الجهيمان، تغمده الله برحمته ورضوانه.
لم ألتقِ شيخَنا الراحل إلاَّ مراتٍ معدُوداتٍ بعد عودتي من مشوار الابتعاث الطويل في أمريكا، وانشغالي بمهام البحث عن الخُبْز الحلال. وقبل ذلك، التقيتُ به -رحمه الله- للمرّة الأولى في منزل أسرتي بحي (الظهيرة) في الرياض دون أن يَعرفَ أيُّ منا هُويّةَ الآخر، وكان ذلك قبل أكثر من أربعين عاماً، وكنتُ وقتئذٍ صَبيّاً في العقد الثاني من العمر، ولهذا اللقاء قصةٌ تُروَى.
كنتُ ذاتَ مساء أتسامرُ في المنزل مع سيدي الوالد -رحمه الله- وبعض من ذوي القربى والأصدقاء، حين دلف إلى المجلس فجأةً رجلٌ تَشِي تقاسيمُ وجهه بالهيبة والوقار، فَيثبُ والدي مرحّباً بالرجل تَرحيباً حاراً، ثم يسَلّم عليه كلُّ من كان في المجلس، بمَنْ فيهم كاتبُ هذه السطور، ويطلب مني سيدي الوالد إحضَار القهوة والشاي والبخور، فأفعل، ثم أنتبذُ مكاناً في المجلس متأملاً وجّهَ ذلك الرجل الوقُور، وكان عازفاً عن الحديث معظم وقت الزيارة، فيما كان والدي يتحدث إليه بحماس، متذكَّراً معه مواقفَ قديمةً جمعتهما في القرائن (غسلة والوقف)، ورحلتهما معاً إلى الحجاز على متن سيارة عتيقة ذات عام!
وفيما كنتُ استمتع بأحاديث الذكريات بين الرجليْن إذا الضيفُ يستأذنُ للانصراف، وسَطَ إلحاح والدي عليه بالبقاء، وتنَامي فضُولي الطفولي لكشف هُوّيته ومعرفةِ سبب اهتمام سيدي الوالد به، ثم رافقناه مودَّعين حتى الباب الخارجي، ولما عدنا إلى المجلس، بادرتُ والدي بالسؤال متَحّمساً :(من هو ذلك الرجل الذي أمْطرتْه ترحيباً وتقديراً)، فقال :(أوَلَمْ تعرفه؟) قلت :»لم أره في حياتي»، فردّ مبتسماً: (أنه الأستاذ عبدالكريم الجهيمان، الذي تقرأ عموده الصحفي مرةً كل أسبوع في صحيفة «اليمامة»)!
كنتُ أقاسمُ سيدي الوالدَ إعجابَه بأدب الجهيمان، وأحرص على قراءة عموده أسبوعياً، وحين كشف لي اللثام عن هويته، تملكني شعور غريب من الأسى، أنني لم أعرفه من قبل، فأعبَّرَ له عن إعجابي به رغم حداثة سني. يومئذٍ، لم أكن قد اقتحمتُ غابَ الكتابة، أو يراودني أدنى هاجس بذلك، مكتفياً بـ(كراسة) الإنشاء المدرسي أُسِرّ لها بالغث والغني من المعاني! وعزائي في ذلك أن الصَّحافةَ في أوج عطاء فقيدنا الكبير الجهيمان وأمثاله كانت (قلاعاً) حصينةً لأولئك الرموز فقط، فكيف لفتىً مثلي في المرحلة المتوسطة من الدراسة أن يحلم بدخولها يوماً ولو تسَلُّلاً!
ومرّتْ الأيامُ والسنون تباعاً، ودخلت بلاط (صاحبة الجلالة) عبر صحيفة (القصيم) الشابة رغم تحفُّظِ سيدي الوالد خوفاً عليّ من عوادي الحرف في ذلك السن المبكر، وكان الأستاذ الجهيمان واحداً من أعمدتها الكبار، فازْددتُ حماساً وفرحاً بالانضمام إلى تلك الصحيفة (متجاوراً) ولو عن بُعد مع ذلك الرمز الكبير، وكان يشاطرُه عناءَ الكتابة رفيقُ مشواره الأدبي، الأستاذ والشاعر الكبير سعد البواردي، وإن لم أر أياً منهما إلاّ لماماً! وقد تم في وقت لاحقٍ اللقاءُ الثاني مع أبي سهيل -رحمه الله- داخل أروقة (القصيم)، وحين عرّفته بنفسي، أثْنَى على جُهْدي المتواضع في الصحيفة، وحمّلني التحية لسيدي الوالد.
وبعد..
فقد كان فقيدُ الحرف الجميل الأستاذ الكبير عبدالكريم الجهيمان (قامة) أدبية متعدَّدة المواهب متجدَّدة العطاء، وكان يكتب بجرأة لافتة عبر زاويته الشهيرة (المعتدل والمائل) عن أوجاع الإدارة وهموم المجتمع، مُوجِزاً مواقفَه الناقدة للظواهر السلبية من خلال (مداخلات) قصيرة.. في بعضها (نغْزُ) الإبَر، وفي بعضها الآخر، (وخْزُ) الرماح! كان صريحاً في كتاباته صراحةً يُمليها حبُّ الوطن وكُرْه كل ما يشوهه، من قول أو عمل، ولم يكن يُعنى بسلبيات الأداء فحسب، بل كان يقول في مداخلاته للمحسن (أحسنت)، ولذا، جاء عنوان زاويته الصحفية (المعتدل والمائل) تجسيداً لذلك!