الرويبضة!، من هو الرويبضة؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تأتي على الناس سنوات جدعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيهم الرويبضة. قيل يا رسول الله وما الرويبضة قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة». رواه الحاكم وأخرجه أحمد وغيره.
فمن هو الرجل التافه المقصود في الحديث؟ الواضح من سياق الحديث أن التفاهة هنا ليس عامة مطلقة، بل هي محددة بفن معين نوعاً وعمقاً ونسبية إلى الأمر المُتكلم عنه.
فعالم الذرة تافه بالنسبة لعلم الطب، والسياسي تافه بالنسبة لعلم الاتصالات، والاقتصادي تافه بالنسبة لعلم السياسة، والشرعي تافه بالنسبة لعلم الاقتصاد.
بعض الوعاظ حرف معنى الرويبضة لتفاهته بالنسبة لعلم الحديث ومعاني الكلام.
جهل بعض الوعاظ وتعاسة مفهومهم وقلة علومهم جعلهم لا يدركون أن علوم الدنيا اليوم أعقد وأصعب وأعمق من علوم الشريعة أضعافاً مضاعفة كثيرة.
والذي يشكك في صحة هذه الحقيقة هو في واقعه يشكك في أصل الدين وأنه أُنزل للناس كافة، وأنه دين واضح لا كهنوت فيه، ولذا خُصت به أمة أُمية جاهلة لا تقرأ ولا تكتب.
قال عليه الصلاة والسلام «نحن أمة أمية»، فما جعل الله فهم دينه لخاصة من الناس، بل شهد الله أنه جعل دينه يسيراً سهلاً للناس عامة {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}، وقال عليه الصلاة والسلام «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات».
فالأصل ندرة وقلة المشتبهات التي تحتاج إلى تخصص في دقائق علوم الشريعة لا العكس، يشهد لذلك قوله عليه الصلاة والسلام «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها».
لا يجادل اليوم اثنان بأن الدنيا قد تقدمت تقدماً بعيداً وتعقدت وتشابكت حتى حار في أفراد علومها الجهابذة في كل علم منها، فكيف يحكم فيها من لا يدرك شيء منها، وغالبا ما يكون جهله فيها مركباً، وفهمه فيها عكس حقيقتها.
فالحكم في الحوادث اليوم ليس كالحكم فيها بالأمس، فحياة الأمس بسيطة لا تخفى على أفراد الناس وحياة اليوم معقدة مبنية على أدق التخصصات.
والشريعة من حياة الأمس لا اليوم، ولذا فكل مسلم قادر على فهمها ولا عكس، فليس الشرعي قادر على فهم علوم الدنيا.
وواجب الشرعي اليوم يجب أن يقتصر على استحضار النصوص وتمييز الصحيح منها من الضعيف، وأما تنزيل حوادث العصر على هذه النصوص فهي من اختصاص العلماء الجهابذة في تلك الفنون الدنيوية.
فالقانوني في الغرب مثلاً، في قضايا التكنولوجيا وما شابهها، يستحضر نصوص القانون، كالاحتكار مثلاً، وأما تنزيل الحوادث عليها فيكون من المختصين في علوم التكنولوجيا مثلاً، وهكذا، لأن تنزيل الحوادث على النصوص تحتاج إلى علم عميق في الحوادث التي نزلت بسبب تلك العلوم.
في القرون السابقة، كان الدين هو الصنعة الغالبة، فحاول علماء الدنيا حشر علومهم الطبيعية في الدين فألحدوا أو فسقوا جميعهم.
واليوم أصبحت علوم الدنيا هي الغالبة، فحاول بعض الشرعيين فرض علومهم على علوم الدنيا فأضاعوا الدين والدنيا، وأكبر شاهد على ذلك اليوم ما يسمى بالإسلام السياسي والاقتصاد الإسلامي.
علوم السياسة والاقتصاد تطورت اليوم تطوراً بعيداً، عجز جهابذتها من علمائها فهمها، ثم يأتي أشخاص تمسحوا بالدين وهم توافه بالنسبة للسياسة والاقتصاد - علومهم فيها جهل مركب- فأضاعوا دين الناس ودنياهم، وهؤلاء هم من الرويبضة الذين حذر منهم نبينا عليه الصلاة والسلام.
أتأمل أحياناً في تصرفات جهابذة العلوم والفكر وقد أخضعوا عقولهم لمُعمم في قم أو لمتمشيخ رويبضة في علم الاقتصاد أو السياسة، فأدرك أن الشرك لا يزال في الأمة.
فهؤلاء لم يُسلموا عقولهم لهؤلاء الرويبضة من المتشيخة لفهمه في هذه المسائل، بل لنقص توحيدهم، فهم في تصورهم الباطني قد جعلوا الشيخ وسيطاً بينهم وبين رب السموات والأرض، لا يتفكرون في قوله ولا يتأملون في مصالحه التي يتحصلها بسبب مشيخته، فهو رجل دين مقدس فهو كهنوتي كرجال دين الكنيسة.
في الدول الديكتاتورية - حيث يطبق التخطيط المركزي للفكر والاقتصاد على الشعوب- تعطلت عقول الشعوب لاتكاليتهم على الدولة في معيشتهم وفكرهم، فعاثت الحكومات الديكتاتورية فساداً وظلماً في البلاد، ومن المسكوت عنه في الخطاب الديني الإسلامي اليوم أنه ديكتاتوري مركزي عطَّل عقول المسلمين ومنعهم من تعلّم دينهم وحذّرهم من نقاش مشيختهم فجهلوه في دينه وأكسلوه بشعارهم الكهنوتي: دع الفتوى لنا واعتنق ديناً لا تعبد الله فيه على بصيرة، بل تَعبدٌ عن طريق وسائط من المتمشيخة الذين فسدوا وظلموا وضلوا وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
ففسد دين الناس بفقدهم لذة عبادة الله على بصيرة، كما فسدت دنياهم تبعاً لفساد عقولهم التي أفسدها الرويبضة من بعض الوعاظ.
hamzaalsalem@gmail.comتويتر@hamzaalsalem