يتصف الفقهاء بزهدهم وورعهم وانصرافهم عن الدنيا وتفرغهم للعلـم طلبـاً وتدريساً وتأليفاً، وقد سجلت كتب السير شيئا من هذا التاريخ المشرق لهؤلاء الرجال الذين كانوا مثالاً للعلماء الربانيون بحق.
عاش هؤلاء حياة كريمة على الرغم من قلة ذات اليد وضربوا أروع الأمثلة في عفافهم عما في يد السلاطين والأمراء، حتى أن بعضهم كان يرفض هدايا الولاة والخلفاء والأمراء وإذا أخذ شيئا من ذلك فإنه يقوم بقسمته بين طلابه ومن يعلم حاجتهم فوراً ولا يبقي له أو لأهله شيئا، وهذا وربي قمة التوكل على الله (لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطيور تروح خماصاً وتغدوا بطانا) هؤلاء الفقهاء والعلماء فقهوا هذا الحديث وعملوا به فرزقهم الله وأعطاهم ما لم يعط غيرهم فذاع صيتهم ورفع قدرهم فكان الخلفاء والولاة يأتون لهم ويمتثلون لأقوالهم.
فقهاء فقراء نام الفقر في عمائمهم ومع ذلك فالكل يتمنى ويتطلع للجلوس بين أيديهم والنهل من علمهم.
يقول الإمام الشافعي:
أمطري لؤلواً ســماء سرنديب
وفيضـي آبار تكــرور تبرا
أنا إن عشت لستُ أعدمُ قُوتا
إذا مــِت لسـت أُعــدم قبـرا
همتي همّة المُلُـوك، ونفسِـي
نفـس حُرّ ترى المذلة قبرا
إذا ماقَنِعتُ بالقــوتِ عُمــري
فلمــاذا أزور زيداً وعمــرا؟
وهذا القاضي: أحمد بن عمر المزجَّد الزَّبيدي يقول: قلت للفقر أين أنت مقيم؟ قال لي في عمائم الفقهاء
إن بيني وبينهم إخاء، وعزيزٌ علّي قطعُ الإخاء
الزبيدي يرى أن الفقر ملازم للفقهاء لأن التفقه يحتاج لتفرغ ذهني قبل التفرغ الجسدي وجمع المال يحتاج أعمال الذهن جمعاً وطرحاً وكما يقال الآن (شطارة) ولذا يصعب جمع الأمرين.
وقفت مع هؤلاء الفقهاء وقفة تأمل بين الأمس واليوم فوجدت البون شاسعاً فعرفت لماذا العلم يكاد أن يضمحل أو قل أثره في الناس يكاد أن ينعدم.
العلم له سَمْته وله أخلاقه التي تمنع حامله من الكثير من الأمور والمواقف التي لا تليق بحامله وتجعله يعف عن الخوض في المال والأخذ من أي باب أتى ويجعل نفسه مشرقة بعلمها لا بمالها، والعالم الحق هو من يعلم أن ما يحمله من عـلم لا يمـكن أن يقارن بالمال مهما كثر.
almajd858@hotmail.com