النفط أغلى وأهم سلعة عرفها التاريخ الإنساني صاحبة قوة ونفوذ وتأثير وتأثر، أهم العوامل التي تلعب دوراً خطيراً في صياغة السياسة الدولية في عالم اليوم، وإذا كان البترول هو العمود الفقري لاقتصادات الدول المنتجة له خاصة تلك صاحبة الاحتياطي والإنتاج الذي يتصدر الدول المنتجة لهذه السلعة (السحرية) فإن الإدارة التي هي (حركة وزمن)..
.. والإدارة الكفؤة تكتسب ليس بالمؤهلات فقط وإنما بالتجربة والممارسة والمثابرة أكثر من اعتمادها على التنظير، ولذا قال أبو الإدارة (تايلور) بأنها علم وفن.
النفط والإدارة يلعبان دوراً رئيساً في اقتصادات الدول فإيرادات البترول تضخ الأموال في عروق الميزانيات، والإدارة بوظائفها هي التي توجه إدارة ممتلكات الدول بل إن الدولة نفسها تعتبر نوعا من الإدارة، إذا طبقت الإدارة بمفهومها الواسع، وقد قال بهذا المفهوم علماء وخبراء الإدارة من خلال مؤتمرات وندوات دولية للعلوم الإدارية انعقد أولها في العاصمة البلجيكية بروكسل عام 1910 وتتابعت بعده مؤتمرات عديدة تبرز أهمية ودور الإدارة في تطور وتقدم الدول.
هذه الأفكار وغيرها كثير منها ما هو سياسي واقتصادي خاصة الاقتصاد السعودي، ومواضيع أخرى تتعلق بالإصلاح الإداري وأهمية الرقابات الإدارية والمالية، طرحها علينا الأستاذ الدكتور عبد العزيز إسماعيل داغستاني رئيس دار الدراسات الاقتصادية من خلال برنامجه الشهير (أسواق) على القناة الأولى، ومن خلال الحديث الذي جاء في لقاءين بتاريخ 25/10/2011/2011 و 2/11/2011/2011 امتد الحديث ليشمل أهمية إعادة هيكلة بعض أجهزة الدولة لأن تضخم تلك الأجهزة يخرج من رحمه بيروقراطية متحكمة وفسادا ورشا ومحسوبية، رغم أن جهات الرقابة تؤدي واجبها ومنها الرقابة السابقة التي تتولاها وزارة المالية والرقابة اللاحقة التي يقوم بها ديوان المراقبة العامة.
ولاهتمامي بقضايا الفساد عموما ويقيني أن الفساد أصبح ظاهرة في الدول العربية يرفع رأسه حتى أصبح متفشياً ولا ينكره إلا مغالط حتى أصبح الفاسدون هامات عالية يستهينون بالقوانين والأنظمة واللوائح والأعراف والأخلاق، ووصل الأمر بهم إلى تبادل مباشر أو غير مباشر للمنافع فيما بينهم، في سلسلة معقدة وسرية لا يعرفها إلا هؤلاء المتنفذون من عبيد الفساد في كل معاملاتهم المخالفة للقوانين حتى يصبح من الصعب بل من المستحيل اكتشافها أحياناً وإخضاعها لطائلة القانون.
ولأن الأسئلة التي أمطرني بها الدكتور داغستاني من ضمنها الرقابتان المالية والإدارية وأهميتهما للحد من التجاوزات المالية والإدارية، والرقابة المالية اللاحقة هامة مثلها مثل أختها السابقة وإن كانت الأخيرة تفضلها كثيرا فهي ناجزة تتأكد من صحة الإجراءات المالية قبل الصرف ولا تترك لزميلتها اللاحقة إلا الفتات لتبحث عنه ولكنها تبقى ضرورة في جهاز القطاع العام خاصة فيما يتعلق بالرقابة المحاسبية.
إن الأمر الخطير في هذا الأمر هو التسريب لهذا التقرير الصادر عن جهة رقابية يتوجب أن تبقى تقاريرها سرية حفاظا على محتواها خاصة أن صدور تقرير حول مخالفة ما لا يعني نظاماً أنها تثبت شرعا في حق من ارتكبها، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته، بعد إجراء كل التحقيقات والإجراءات والتأكد من المستندات الثبوتية وصدور حكم قضائي نهائي بحق مرتكب الاختلاس أو متلقي الرشوة (مثلا) وهذا فيه تحر للصدق فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول (تحروا الصدق وإن رأيتم أن الهلكة فيه فإن فيه النجاة) رواه ابن أبي الدنيا.
والمادة السادسة عشرة من نظام ديوان المراقبة العامة تنص بأنه في حالة اكتشاف مخالفة فللديوان أن يطلب تبعا لأهمية المخالفة من الجهة التابع لها الموظف إجراء التحقيق اللازم ومعاقبته إداريا.
ولو تركنا الباب مفتوحا لكل جهة من جهات الإدارة بتسريب معلومات عن مخالفات إدارية أو مالية لألحقنا ضررا كبيرا بالوزارات والهيئات والمصالح الحكومية التي تمثل القطاع العام في الدولة وبذا تهتز الثقة في القطاع العام بأكمله، وهو الذي يقدم خدماته للمواطنين فينشغل بأمور من المفترض أن تبقى سرية حتى يقضي بها القضاء أمره، وهو الذي يحدد أيضا سريتها أو علانيتها كما نرى أن محكمة ما تقرر علانية جلساتها وأخرى تحجبها لضرورة تراها.
إن سرية تقارير ووثائق الجهات الحكومية هي واجب وطني تقتضيه الأمانة في أداء العمل باعتبارها عنصرا مهما من عناصر المواطنة في نظر الإسلام، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له) رواه احمد، والأمانة تعني المحافظة على أسرار العمل والوطن وعدم إعطاء اللسان العنان لإفشاء الأسرار.
إنني أدرك أهمية الرقابتين السابقة واللاحقة للصرف فالأولى والتي تتولاها وزارة المالية تتمتع بسلطة الموافقة السابقة على أعمال جهات الإدارة، وميزتها الأساسية تجنب الأخطاء قبل وقوعها وذلك بدلا من اكتشافها بعد وقوعها في الرقابة اللاحقة، وهكذا تعمل الأولى على الوقاية بينما تعنى الثانية بالعلاج، لكن الرقابة اللاحقة تفتقر إلى الفاعلية لأنها تتم بعد فترة من الزمن ومن ثم فهي لا تمنع وقوع الخطأ، ناهيك أنها لا تضاهي الرقابة السابقة في دقة فحص المستندات فعليا لأنها (أحيانا) تقتصر على عينة منها وهذا لا يكشف عن الأخطاء التي تكون وقعت في جهة أخرى من جهات الإدارة، لكن هذا لا يعني التقليل من أهميتها فهي عامل مهم في الحد من الأخطاء.
لكن -وهذا هو الأهم - أن تؤدي الرقابات طبقا لنص الأنظمة واللوائح المحددة لاختصاصاتها يقوم بها رجال يتمتعون بنعمة الأمانة والتقوى والبصيرة وحسن الإدراك وصحة الفهم والمؤهلات والخبرة وموازين العدل والحكمة، وإذا تحقق هذا فإن قيام موظف محدد أو أكثر بالاختلاس أو الرشوة أو استقلال وظيفته فإنه ليس من العدل توجيه الاتهام لكامل الإدارة، وعلى الجانب الآخر أن تبقى تقاريرها محاطة بسرية متناهية تخدم مصلحة البلاد والعباد، وحتى لا يظلم بريء، أو يفلت من العقاب مسيء، عن أنس رضي الله عنه قال: ( أتى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان قال: فسلم علينا فبعثني إلى حاجة فأبطأت على أمي فلما جئت قالت: ما حَبَسَك؟ قلت بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت : ما حاجته؟ قلت إنها سر، قالت لا تحدثن بسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا) رواه مسلم.
والله ولي التوفيق
(*)رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية
dreidaljhani@hotmail.com