كان ذلك في عام 1992م، وفي يوم من أيام يوليو - تموز الشديدة الحرارة، في الثانية عشرة ظهر ذلك اليوم، وتحديداً في المدرسة الثانوية، حيث تحلقت أربع فتيات في عمر الزهور حول إحدى الطاولات في مقصف المدرسة، وكن قد انتهين من تقديم آخر امتحان في الثانوية العامة. كن مسرورات مقبلات على الحياة، يحدوهن الأمل، مستبشرات بمستقبل باهر، فأبواب الحياة فاتحة ذراعيها لهن، وحياة الجامعة تحديداً تنتظرهن...
قالت الأولى: أنا سأبحث عن الحب، أريد شاباً وسيماً يبادلني حباً بحب، نعيش لوعة الشوق، تلسعنا غيرة المحبين، وننتشي بروعة تصالح العشاق بعد الخصام، تماماً كما قرأت في الروايات.
وقالت الثانية: أما أنا فاعلم أنكن تتهمنني بالغرور والغطرسة، ولكن طموحي عالي، فأنا أبحث عن الكمال، أريد أن أنهل من العلم فأحصل على أعلى درجات الطب، وأشغل منصباً وظيفياً مرموقاً، وأتزوج رجلاً يحبني ولا ينظر إلى امرأة سواي.
أما الثالثة فقالت: أنا يا صديقاتي لن أُتعب نفسي أبداً، فالمال وفير ومتع الحياة كثيرة، فما جدوى إجهاد النفس بالدراسة والسهر والانضباط؟ الحياة قصيرة لذا سأُسافر وأستمتع بحياتي.
والرابعة قالت: الحياة تسير وفق نسق منتظم فعلينا أن ندرس ثم نتوظف ثم نتزوج وننجب الأطفال، وتسير الحياة بنا كباقي البشر، وهذه سنة الحياة.
ومضت الأيام سراعاً، والتقت الأولى بالحب، لكن حظها العاثر أوقعها بحبيب أناني لم يقدر مشاعرها وصدقها، فتحطم قلبها آلاف الأجزاء، وبما أن القلب المحطم يحتاج إلى وقت طويل كي يتعافى، فقد قضت صديقتنا أياماً وليالي عصيبة، وبالنهاية كفرت بالحب، وآمنت بالمشاعر المنبثقة من المودة والعشرة بعد الزواج.
أما الثانية الطموحة، فقد سعت وسهرت الليالي في التحصيل العلمي، وحصلت على درجة الدكتوراه في الطب ووظيفة مرموقة كما خططت، لكن عمرها كان يمضي مسرعاً فلم تجد زوجاً يحبها ولا ينظر إلى سواها، إنما تزوجت من رجل له اسمه ووزنه، وكانت الزوجة الثالثة.
والثالثة الباحثة عن متع الحياة، أو اللامسئولة، فقد مال بها الحال ميلاً شديداً، تُوفي والدها بعد أن أثقلته الديون، ولم تجد أمامها إلا والدتها المريضة ودراهم قليلة لا تكاد تفي بقوت اليوم، فاضطرت للعمل وتمسكت بوظيفة ابتدائية بسيطة جدا إلا أنها تساعدها على استيفاء احتياجات المعيشة والمرض.
والرابعة: سارت بها الحياة روتينية طبيعية مستقرة كباقي البشر.
وبعد سبعة عشر عاماً، كان ذلك في عام 2009م، وفي يوم من أيام يناير - كانون الثاني، كانت أستار المساء قد انسدلت، وكان هواء الليل بارداً، اجتمعت الصديقات الأربع، وكن في عمر النضج والوعي، في إحدى المقاهي المنتشرة في البلدة.
قالت الأولى: تزوجت بطريقة تقليدية عائلية وأعيش سعيدة، فالاحترام أولاً ثم الحب، فما جدوى الحب بدون احترام.
وقالت الثانية: لكل مجتهد نصيب في هذه الحياة، ولا شيء كامل فأحياناً قد تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
أما الثالثة فقالت بقناعة ممزوجة بالأسى: اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم.
والرابعة: لم يكن لديها شيئاً لتقوله، غير أن روتينية الحياة أورثتها الملل كباقي البشر.
توادعت الصديقات وتواعدن على اللقاء، وإحداهن تسأل نفسها: هل كر الأيام كفيل بتغيير آراء الناس؟
يبدو أن الإجابة: نعم- الرياض
* الرياض