أكثر مسالك التأليف وعورة، هي تلك المؤلّفات التي لا يكتمل عقدها إلاّ بعد قراءة مؤلّفها عشرات الكتب بتفحص وتمعن دقيق، وهو ما يعبر عنه بـ(جرد المطولات) أي أنك تجرد الكتب المطولة من أجل البحث عن معلومة قد تجدها وقد لا تجدها كاملة ! وفي الوقت نفسه على المؤلف جرد هذا الكتاب المطول من أجل معرفة منهج هذا المؤلف وبيان مصادره التي استقى منها المعلومات، هذا المسلك التأليفي الذي أشرت إليه هنا، قليل من الباحثين العرب من يقترب منه سوى مؤلف هنا أو هناك، وهم يعدون على أصابع اليد الواحدة، وبرز منهم ثلة قليلة في العراق قبل سنوات ليست بالقريبة، يحضرني الآن منهم الباحث العراقي الكبير كوركيس عواد الذي اشتهر بجرد الكتب المطولة، ومثله الباحث العراقي الكبير أنستاس الكرملي والباحث العراقي الكبير عبد الله الجبوري، وغيرهم قليل (ولا أقول كثير) في مصر والشام، وهؤلاء الباحثون يمتازون بالجلد الكبير وعشق الكتاب إلى درجة كبيرة، فهم لا يتجاوزن المكتبة ويذهب جل وقتهم في القراءة والبحث وهم منصروفون عن المناسبات الاجتماعية أو العامة إلاّ لأوجب الواجب، وقد عرفهم المجتمع بذلك وتفهم طبيعتهم، وأذكر أنّ العالم المصري الراحل محمد فؤاد عبد الباقي، وهو صاحب الكتاب المشهور المفهرس لألفاظ الحديث النبوي، كان يكثر من الصوم وتقليل الأكل والشرب حتى يقل ذهابه إلى دورة المياه، وتفرّغ للبحث والكتابة، وهو ما جعل هذا الرجل يقدم العديد من كتب التراث ويبقيه مصدراً مهماً للباحثين حتى مع تعدُّد الطبعات لهذه الكتب بعد طبعته وهو المتوفى سنة (1388هـ)، ولا أريد أن أذهب بعيداً في ذكر الأمثلة الغائبة، بل تبادر إلى ذهني الباحث المتميز الأستاذ الدكتور عبد العزيز بن محمد الفيصل صاحب العمل بل المنجز العلمي الكبير «مصادر الأدب عند ابن خلدون» حيث تحدث بالتفصيل الناتج عن البحث والاستقراء للكثير من أمهات كتب الأدب بطريقة علمية، وخرجت هذه الدراسة في قرابة السبع مائة صفحة من الحديث العلمي المركز الناتج عن جهد وبحث واستقراء مرهق لا يعرفه إلاّ من قلب الكتب والمراجع المخطوطة والمطبوعة القديمة والحديثة، وهذا فن لا يتقنه إلاّ الكبار.

دعواتي لأستاذنا الفيصل بالتوفيق وأن يستمر في أداء رسالته العلمية التي سيجني الباحثون ثمارها عاجلاً وآجلاً بإذن الله.

وكلي أمل أن يكتب الفيصل شيئاً من خواطره وتجاربه مع كتب التراث الأدبي، وكيفية التعامل معها وكيفية الوصول إلى المعلومة فيها، كما كتب الدكتور المصري الراحل محمد الطناحي كتابه الشهير الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم.