الرأسمالية الغربية التي عرفت كنظام اقتصادي عالمي تعتمد على الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية أو المنافسة الحرة، الحرية المطلقة في الاقتصاد، وخصوصا مع انتشار المذهب التجاري (الماركنتيلي)القائم على مبدأ دعه يعمل دعه يمر laissez faire laissez passer رغم أن الماركسيين الأوائل تنبؤوا في سقوطها كنظام عالمي إلا ان المحدثين من الماركسيين أو من هم على نهجهم اعترفوا في تبني الرأسمالية إلى تطوير آليات مكنتها من الاستمرار والصمود في وجه معتقدهم الفكري، وبذلك اتجهوا إلى نقد الجزئيات، ولا أعتقد أن هناك ما يدعو إلى توضيح نقدهم، ولكن نلاحظ دعوات من بعض من يطلقون على أنفسهم العلمانيين (رغم اعتراضي على هذه التسميات) في تخلي الاقتصاد كليا عن أي اعتبارات أخلاقية أخرى رغم أن الرأسمالية علمانية في طبعها ومنهجها إلا أن الاختلالات الوظيفية التي أفرزتها الصناعة والتحديث، جعل الفكر الغربي يحاول البحث عن إيجاد حلول لهذه الاختلالات أو هذا المأزق في الاقتصاد، ورغم تصاعد الجدل القائم بين الوضعية الاقتصادية أو المعيارية في علم الاقتصاد مؤكدين أن نهج الوضعية يدرس (ما هو كائن فعلا فقط) بعيدا عن المعيارية ولكن في العصر الحالي بدأت العودة إلى المناداة إلى المعيارية في الاقتصاد، بينما نحن كمسلمين حسم هذا الجدل منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
فالاقتصاد الإسلامي يبحث لدينا (ما هو كائن فعلا)، و(ما يجب أن يكون) رغم أن الحرية موجودة في الاقتصاد الإسلامي إلا انها مقيدة بما يفيد المجتمع ولا يضر بغيره فهو يبحث (ما هو كائن) و(ما يجب أن يكون) و(ما الأثر من ذلك)، لذلك كان مناسبا لكل عصر.
وقد اعترفت كثير من الدول الغربية بعدم تلبية الرأسمالية لجميع المتطلبات في العصر الحديث، وعقدت مؤتمرات وندوات وتمخض عن هذه المؤتمرات منظمات وهيئات واتحادات وجمعيات ونقابات وكل هذه المنظمات تحاول إعادة المعيارية إلى الاقتصاد، أو بمعنى أكثر تحديدا دعوة إلى دمج الأخلاق في الاقتصاد، لذلك انبثق عن هذه المنظمات مفاهيم متعددة يرى أنها جديدة مثل الحوكمة والشفافية والمساءلة والجودة والوعي البيئي وحقوق الإنسان والتنمية البشرية والتنمية المستدامة أو بمعنى أشمل وأكثر اختصارا مسؤولية الأداء الاجتماعي للاقتصاد عموما أو المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص للحد من الآثار التي تنتج عن إطلاق الحرية الاقتصادية.
وكل هذه المفاهيم التي تعتبر جديدة هي موجودة في الاقتصاد الإسلامي منذ فجر التاريخ، والعالم الغربي بذلك ينهج نحو أسلمة الرأسمالية لتواكب متغيرات العصر وإفرازات الصناعة الحديثة وذهب بعض الدول إلى أبعد من ذلك من خلال إدراج الاقتصاد الإسلامي في إحدى الجامعات الفرنسية في دراسات عليا (ماجستير الاقتصاد الإسلامي) وهذا أمر جدا جميل حيث يعزز من قناعات غير المسلمين في شمولية الاقتصاد الإسلامي، ولكن الغرب يبرر هذا التوجه أن يوجد جاليات مسلمة كبيرة تحتاج إلى هذا التخصص، وهم يقصدون شيئا ويطلبون شيئا آخر،كما يقال (تورية في لغة البلاغة العربية) فالذي يطلقونه شيء والذي ينشدونه شيء آخر.
العودة إلى الاقتصاد الإسلامي لكونهم وجدوا فيه ما عجزت الرأسمالية عنه، ولكن دون تصريح في ذلك منطلقين من منطلق عقائدي صرف.
والمشكلة أن كثيراً من الكتاب دائما ينسبون إلى الغرب في اكتشاف وصياغة بعض المفاهيم الحديثة، بينما في الواقع هي موجودة في تراثنا الإسلامي قبلهم، بكثير ولكن لم يتم التطرق لها، بسبب عدم تشجيعنا للبحث العلمي في كثير من المجالات الصورة الذهنية التي لدينا عن الغرب بابتكاركل جديد.
فمثلا مصطلح المسؤولية الاجتماعية مصطلح غربي، ولكن موجود لدينا كمسلمين في التشريع بصورة مختلفة منذ فجر التاريخ، والحوكمة أيضا موجودة، والمساءلة كذلك، وحقوق الإنسان، وحقوق العاملين، والضمان الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية والتمكين، ولكن كل ما في الأمر يحتاج إلى البحث عنها وإبرازها وفق المفاهيم العصرية الحديثة و بالإشارة إلى أصلها الشرعي في الدين الإسلامي
الاختلاف الجوهري بين الشرق والغرب، بين العالم الأول والعالم الثالث، بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، هو التطبيق: فهم يقرون ويطبقون بجدية، ولكن نحن لدينا الأطر المرجعية الواضحة والكثيرة في كافة جوانب الحياة، ولكن التطبيق غير جاد في كثير من الحالات أو بعض الأحيان يخالف الأطر المرجعية التي ننادي بها أو التساهل بها في بعض الأحيان.