سبحان مغير الأحوال ومبدلها، تغير الأحوال وتبدلها يعد سنة من سنن الله الكونية، لا تحيد ولا تتأخر، والحكمة من سنن التغير والتبدل ظاهر دلالتها، التغير والتبدل يكسب الحياة حيوية وقيمة وبهجة، فحيوية التغير تتجلى في كونها تدفع إلى مزيد من الشوق والأمل والتطلع والترقب لما هو آت، وقيمته تتجلى في كون الإنسان يعرف بجلاء ما يحظى به ويتميز من مقومات وإمكانات وامتيازات مقارنة بغيره ممن قد يكون محروما من تلك المقومات، أو يتمتع بالقليل منها.
تتوالى الأيام والسنون على الإنسان وهو يتقلب بين حال أشعرته معطياتها أنه الأسعد، وحال أخرى شعر منها أنه الأتعس، فكم تمنى لو أن أيام السعادة طالت وطال أمدها، وأن أيام التعاسة لم تمر، بالأمس طويت صفحة عام أجزم أن الكل خبر فيها أمورا أسعدته، وخبر أخرى أثارت أحزانه وأشجانه وآلامه، مرت أيام السعادة مثل الحلم، ومرت كذلك أيام التعاسة وإن بدت أنها أثقل وأطول، حتما كل هذا سيمر ولن تبقى حال على الدوام، رضي بذلك من رضي، وسخط من سخط، تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا.
فسنن الله اقتضت ألا سعادة مطلقة أبدا، كما أنه لا شقاوة مطلقة كذلك، فالإنسان ترواح أحواله بين السعادة حينا والشقاوة أحيانا أخرى، وأن السعادة مهما بلغت ألوانها وأنواعها ودرجات التمتع فيها، زائلة منتهية، أي أنها حتما ستمر وتبقى ذكرياتها، كذلك الشقاوة مهما بلغت ألوانها وأنواعها ودرجات المعاناة منها، زائلة منتهية، أي أنها حتما ستمر وتبقى ذكرياتها، وبالتالي سوف تنسى أيام السعادة وتزول آثارها من النفس، والحال نفسها بالنسبة للشقاوة تزول آثارها من النفس وتنسى.
الحزن كلنا عرفه وعايشه، وخبر آلامه المبرحة، وحسراته المتوالية، وبلغ منه مبلغا أدمى القلب، وسلب الهناءة، صحيح أن المعاناة منه تختلف مددها ودرجاتها بين هذا وذاك، لكن الكل حتما تعرض للحزن يوما ما، ومرت تلك الأيام ونسيت، كذلك الكل عرف السعادة والفرح والبهجة، ولطالما ارتسمت الابتسامات على الأفواه، وعلت الضحكات الكثير من جلسات الأنس، لكنها مرت ونسيت، وسوف يراوح الإنسان بين أيام حزن حتما ستمر، وأيام فرح حتما ستمر، وهكذا تتوالى أيام العمر ولياليه، صفحات تطوى، وصفحات تفتح، وما طوي ذهب وخبا وكأنه طيف حلم جميل أو مزعج، المهم أنه لم يستغرق سوى ثوانٍ أو دقائق معدودة ثم تلاشى ونسي.
الغنى عرفه البعض وعايشه، وخبر مظاهره وصوره المبهجة، وأساليب الاستمتاع فيه، وسهولة الحصول على كل ما تشتهيه النفس من متع الدنيا، الصالح منها والطالح، النافع منها والضار، فلطالما انتشى ذاك الغني فرحاً مسروراً بمركب يركبه، أو مسكن يسكنه، أو سفر يستمتع فيه بما لا يخطر على البال من صور الجمال والراحة والمتعة، ومع هذا، ستمر هذه الأيام حتما وإن طال أمدها، وقد يعقبها ضيق حال أو اعتلال، أو كبوة وعثرة تقصم الظهر وتحول دون التواصل مع ما ألفته النفس من متع الدنيا، ورغبت فيه وطربت له، عندئذ تتبدل الحال وتنقلب الأوضاع إلى النقيض، فلم يعد لتلك الأيام المبهجة السعيدة غير ومضات تمر في الخيال فتثير في النفس المزيد من الأسى والحسرة، فيغدو غني الأمس فجأة منكسر الخاطر، حسيرا ذليلا منكفئا، عليلا ضعيفا لا يقوى على التحمل والمقاومة، تلاشت أمامه مثل السراب تلك الأيام الماتعة التي عاشها، وكأنه لم يعشها، وحل مكانها أيام كآبة مظلمة موحشة، أحوال تتحول من حال إلى أخرى، تتقلب بين حسن وسيئ، بين جميل وقبيح، بين مرغوب ومكروه، إنها حكمة الله وإرادته.
العقلاء وحدهم من يعي أن الأيام دول، وأنه لا أمان لها ولا استقرار، لهذا وطنوا أنفسهم، إن أصابتهم سراء شكروا، وإن أصابتهم ضراء صبروا، إنهم يعرفون تمام المعرفة أن كل سراء ستمر لذا لن يغتروا بها، لأنه مهما بلغت درجات السرور وصوره لن يتبقى منها إلا ذكريات سرعان ما تنسى، وأن كل ضراء ستمر لذا لن يجزعوا منها، لأنه مهما بلغت درجات الحزن وصوره لن يتبقى منها إلا ذكريات سرعان ما تنسى.
إنها سنة الله، دوام الحال من المحال.
ab.moa@hotmail.com