كل أنظمة الطغيان تحفر لنفسها. ولكني لا أعرف نظاماً حفر لنفسه أكثر مما فعل النظام «الفهيم» في سوريا.
خرج الناس في تظاهرات في درعا احتجاجاً على انتهاكات لأجهزة الأمن ضد أطفال، فأرسل لهم الدبابات والمزيد من أجهزة الأمن. فخرجوا أكثر ليطالبوا بالحرية.
وعندما امتدت التظاهرات لتشمل كل مدن البلاد، لم يستوعب الدرس، وما كان منه إلا أن أرسل المزيد من قواته لتقتل وتقمع. فخرج الناس ليطالبوا، فوق الحرية، بإسقاط النظام.
وبينما ظل المتظاهرون يرفعون شعار «سلمية، سلمية» لوصف احتجاجاتهم، فقد ظل النظام يزعم أنه يلاحق عصابات مسلحة، وذلك حتى ظهرت عصابات مسلحة بالفعل، وحتى تحول الانشقاق عن الجيش إلى ظاهرة، وحتى أصبح هناك جيش بكامله يستعد ليكون «عصابات مسلحة»، أكبر من أي عصابات مسلحة عرفها أي شعب.
وعندما رأى النظام أن هناك ربيعاً عربياً يمتد من بلد إلى آخر، فقد راهن على شعار «سوريا غير». ولكنه بدلاً من أن يتصرف باعتباره «غير» في الحكمة والمنطق، فقد زاد في القهر حتى أثبت أن «سوريا غير» بالفعل، إنما في الاستبداد والعنف، مما صار يستحق أكثر من ربيع لا ربيعاً واحداً.
وعندما مُنح الفرصة ليصلح ما فسد من دون تدخل من أحد، فإنه بددها قائلاً إنه يواجه مؤامرة خارجية، وظل يبدد الفرصة بعد الفرصة، حتى أصبح تدخل الخارج شراً لا بد منه.
وعندما دعاه الخارج إلى أن يقوم بقيادة مرحلة انتقالية، بالحوار، فإنه اعتقل المعارضين، وضربهم، وذلك حتى أعلن الخارج، لفرط اليأس، إن هذا النظام «فقد الشرعية»، وإنه لم يعد يصلح لشيء إلا الرحيل.
وعندما قال له الوطنيون أصلح، فإنه زاد في الفساد.
وعندما قال له الأهالي، أطلق سراح المعتقلين السياسيين، فإنه اعتقل المزيد.
وعندما قال له الصحافيون دعنا ندخل لنتحقق بأنفسنا من وجود «المندسين»، فإنه أغلق الأبواب على صحافيي الداخل المستقلين أنفسهم.
وعندما قال له الخبراء، إن جدار الخوف سقط، فإنه أضاف إلى أجهزة الخوف، مرتزقة من الداخل والخارج.
وعندما قيل له أسحب الدبابات ودع الناس يخرجون في تظاهرات سلمية، فإنه أرسل لهم الشبيحة والدبابات معا.
وعندما ظل معارضوه يرفضون التدخل الأجنبي والتدويل، فإنه زاد في قمعه وإقصائه حتى للمعتدلين منهم، حتى أصبح التدويل خياراً للمتشددين وللمعتدلين معا.
وعندما وجهت له بعض الدول العربية نصيحة بأن يصغي لشعبه، فإنه شتمها، وهاجم سفاراتها وقتل بعضا من رعاياها.
وعندما قدمت الجامعة العربية مبادرة لنجاته، وإطالة عمره، فإنه لجأ إلى التسويف، مثلما تعمد التسويف في كل شيء آخر، ظناً منه أنه يستطيع أن يستغبي الآخرين.
وعندما ضاق الذرع بالجامعة العربية، وهددت بالتوجه إلى مجلس الأمن، فإنه زاد طينته بلّة، فأخرج مظاهرات تهاجم الجامعة العربية.
وعندما طالبه أهل الحكمة بأن يتعامل مع مطالب شعبه بصدق، فإنه ظل يكذب.
وعندما دعاه المتعقلون من مثقفي بلده إلى الحوار، فإنه اعتمد على أجهزته الأمنية لتختار متحاورين على مقاسه، وحتى هؤلاء لم ينفذ لهم ما طالبوا به. بل واعتقل بعضهم.
وعندما رأى أن الحفرة تزداد عمقاً، فقد ظل يحفر.
هذا هو السجل الواقعي للأشهر التسعة الماضية برمتها.
فهل عرف التاريخ نظاماً حفر لنفسه أكثر مما فعل هذا النظام؟
المنطق يقول: من ير خطراً يرعوي. ومن يرى حفرة يتحاشاها. ومن يلج طريقاً أعوج يخرج منه. ومن يرى عاصفة ينحني. ومن يرى شعباً يثور يصغي له. ومن يجرب خياراً فاشلاً يستبدله. إلا من أصاب الله بصيرته بالعمى، فإنه لن يرى حتى ولو كان طبيباً للعيون.
وغداً عندما يسقط بين أحضان الفوضى والتمزيق، فإن أنصاره سوف ينسون كل شيء، ليقولوا «إنها مؤامرة خارجية».
والحقيقة، هي أن البشرية لم تعرف نظاماً تآمر على نفسه أكثر مما فعل هذا النظام.
وهو، مثلما اخترع صموداً لم يصمد على شيء، وممانعة لم تمانع في شيء، فإنه اخترع عصابات مسلحة حتى رآها، ومندسين حتى تحولوا إلى شعب بكامله، ومؤامرة حتى وقع فيها.
والسوريون، معتدلين ومتشددين، يقولون اليوم إنهم لا يريدون تدخلاً عسكرياً أجنبياً. ولكن، راجع السجل، وستعرف ماذا سيفعل النظام الفهيم لنفسه.