|
وارسو - عبدالله فهد أبا الجيش
تتميز العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية بولندا بثقل سياسي واقتصادي وعلمي جعل العلاقات أكثر رسوخاً وقوة مع مرور الزمن. وهذا العام يوافق الثلاثين من نوفمبر مرور عشرة أعوام على افتتاح سفارة خادم الحرمين الشريفين في وارسو. وتأتي هذه المناسبة تتويجاً للتعاون الدائم والفعال بين البلدين الصديقين في شتى الجوانب والمجالات خصوصاً وأن بولندا هي من أوائل الدول التي قامت ببناء العلاقات الدبلوماسية مع المملكة بل وحتى من أوائل الوفود الأجنبية التي التقت بالملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه- وما تلا ذلك اللقاء التاريخي من شوط طويل نحو تعزيز هذه العلاقات وتعميقها. وبهذا الصدد تلتقي الجزيرة بسعادة الأستاذ وليد بن طاهر رضوان سفير خادم الحرمين الشريفين في جمهورية بولندا بمقر دار السكن لنستشرف معه أبرز التطورات التي اتسمت بها العلاقة بين البلدين بعد مرور عقد من الزمن على افتتاح سفارة المملكة بوارسو......
بداية سعادة السفير، نشكركم على الاستجابة للدعوة لعمل هذا الحوار الخاص بمناسبة مرور عشرة أعوام على افتتاح سفارة خادم الحرمين الشريفين في وارسو بجمهورية بولندا؟
- في الواقع أنا مَن أود أن أشكركم لإتاحة هذه الفرصة لي لأتحدث عما أشعر به أنا وزملائي أعضاء السفارة من غبطة وسرور بهذه المناسبة التي تعبر عن متانة العلاقات بين البلدين الصديقين. وكنت قبل بضعة أسابيع قد ألقيت كلمة ترحيبية أثناء احتفال السفارة بذكرى غالية علينا جميعًا وهي مرور واحد وثمانين عامًا على توحيد المملكة العربية السعودية تحت قيادة -المغفور له بإذن الله- الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، قلت في كلمتي أمام الحضور، أنه ما يزيد هذه المناسبة قيمة خاصة لنا هذا العام نحن منسوبي سفارة خادم الحرمين الشريفين أنها تتوافق مع مرور عشرة سنوات على افتتاح السفارة في وارسو، وإضافة لذلك إننا قد بدأنا -ولله الحمد- الاستعدادات النهائية لبناء المقر الجديد في موقع مميز من العاصمة وارسو وهو ليس ببعيد عن موقع المركز الإسلامي للمدينة، ونتوقع -إن شاء الله- أن يكون هذا المشروع الجديد لبنة أخرى تضاف إلى صرح العلاقات بين المملكة وبولندا وواجهة حضارية وبوابة أولى لضيوف المملكة، كما آمل أن يسمح المبنى، بتصميمه العصري الذي يجمع بين الطابع الإسلامي والهندسة المعمارية المحلية، بأن يساعدنا على خدمة جميع الرعايا السعوديين المقيمين والزوار والضيوف بشكل أكثر كفاءة وسهولة.
خلال السنوات الماضية طرأت الكثير من التغييرات والتطورات على العلاقات بين البلدين، وكانت الدعامة لهذا التطور افتتاح السفارة في بولندا، فما تأثير هذه الخطوة على ما أُنجز حتى الآن؟
- كما هو معروف أن سفارات الدول هي الواجهة التي يجب أن تعبر عن مستوى وأهمية العلاقات مع الدولة المضيفة. كما أنها تشكل الانطباع الأول الذي يأخذه الضيف أو الزائر عن البلد ومدى رقيها وحضارتها وتطورها، وحتى أخلاقيات وأسلوب تعامل مواطنيها مع بعضهم البعض ومع الآخرين. لذلك فإن سفارة خادم الحرمين الشريفين في وارسو، أسوة بغيرها من ممثليات المملكة في جميع أنحاء العالم، لديها تعليمات واضحة تستند إلى توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وإلى كل التوجيهات الصادرة عن قيادة بلدنا الغالي أن يكون أول أولوياتنا الاهتمام بالمواطن السعودي والوقوف إلى جانبه، وبذل كل جهد لحل المشكلات التي تعترضه في حدود الصلاحيات والإمكانيات المتاحة. إننا نعتبر أن السفارة هي البيت الذي يمكن للمواطن في بلد الاغتراب أو أثناء السفر أن يلجأ إليه عندما يحتاج العون أو النصح أو المساعدة، والسفارة بدورها واجب عليها أن تبدأ بالترحيب به ومنحه الإحساس أنه في وسط أهله وأسرته، ثم تقديم ما يمكنها لخدمته. كما أن السفارة، إضافة لما توفره من خدمات للرعايا والمواطنين السعوديين، تعتبر نفسها المحطة الأولى التي يمر بها الضيف أو الزائر الأجنبي لبلادنا، فتعمل على توفير ما يحتاجه من معلومات أو بيانات أو خدمات تخص طلباته للقيام بالأعمال أو التجارة أو الاستثمار أو الشئون القنصلية، وتحرص أن يتم تزويدهم بها بكل يسر وسهولة من خلال المقابلات الشخصية والتي نسعى أن نظهر بها ما يتميز به شعب المملكة من حسن الضيافة وآداب حسن التعامل والترحيب بالزوار. كما أن العديد من المعلومات والخدمات أصبح بالإمكان تقديمها من خلال البوابة الإلكترونية للسفارة والتي نعمل على تحديثها دورياً لفائدة الرعايا المقيمين في بولندا أو متصفحيها في البلد المضيف أو غيره. إضافة لما سبق فمن أساسيات مهام السفارة متابعة المستجدات المحلية وخصوصاً الشئون التي تهم المملكة، كما أنه ومن خلال القسم الاقتصادي التجاري بالسفارة يجري متابعة مستمرة لحجم ومستوى التجارة البينية وجمع البيانات عنها وتحديثها أولاً بأول والاجتهاد في تطويرها وزيادتها والسعي لتعديل الميزان التجاري لما فيه مصلحة المملكة عن طريق تشجيع رجال الأعمال البولنديين والمؤسسات الحكومية والخاصة على الاستثمار في المملكة وبشكل رئيس لمشاريع نقل المعرفة والتقنيات الحديثة. وتتابع السفارة تنفيذ الاتفاقات الثنائية وتفعيلها وتعريف التجار والمستثمرين ورجال الأعمال بها ومزاياها، حرصاً على بيان الحوافز التي توفرها بهدف زيادة حجم التبادل التجاري ورفع مستوى التعاون في مختلف المجالات الثقافية والتعليمية والطبية والرياضية وغيرها.
لقد تابعت سفارة خادم الحرمين الشريفين في وارسو منذ افتتاحها التنسيق والتنظيم والترتيبات للعديد من الزيارات الرسمية المتبادلة ببن المسئولين والوفود واللجان في البلدين والتي توجت بالزيارة الرئاسية البولندية عام 2004م إلى المملكة والتي أعقبتها الزيارة التاريخية لخادم للحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى بولندا عام 2007م والتي تم خلالها توقيع عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم ثنائية هامة تعد من ركائز التعاون المشترك حالياً ومستقبلاً مع بولندا في مجالات متعددة.
يعود تاريخ العلاقات بين المملكة العربية السعودية وجمهورية بولندا لأكثر من اثنين وثمانين عاماً ولكن في العقد الماضي نشطت العلاقات في جميع النواحي وبشكل ملحوظ، فما تفسيركم لهذا الحراك رغم قدم العلاقات بين البلدين؟
- صحيح أن العلاقات الرسمية بين البلدين بدأت عام 1929م حيث كانت بولندا الدولة التاسعة التي تعترف بالكيان الجديد للمملكة العربية السعودية. وأعقب ذلك زيارة رسمية عام 1930م قام بها وفد بولندي يمثل وزارة الخارجية وسماحة مفتي مسلمي بولندا. وفي عام 1932م زار بولندا الملك فيصل بن عبد العزيز -رحمه الله- عندما كان وزيرًا للخارجية ورئيسًا لمجلس الشورى، وتم خلال الزيارة الاتفاق على التعاون المشترك بين البلدين في عدة مجالات. لكن بسبب الظروف التي صاحبت الحرب العالمية الثانية وما أعقبها من تغييرات جيوسياسية فقد جمدت العلاقات بين البلدين لعدة عقود إلى أن اتفق على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة عام 1995م وأعقبها افتتاح سفارة جمهورية بولندا في الرياض عام 1998م ثم افتتاح سفارة خادم الحرمين الشريفين في وارسو عام 2001م. وفي الواقع أنه يمكن ملاحظة ومتابعة تطور العلاقات بين البلدين منذ ذلك الوقت أي عشرة سنوات وحتى الآن، حيث توالت الزيارات الرسمية المتبادلة بين المسئولين والذين لا شك كانوا حريصين على استكشاف مجالات التكامل والتعاون والتنسيق لما فيه فائدة ومصلحة الطرفين. ثم جاء توقيع ما يسمى الاتفاقية الإطارية بين المملكة وبولندا عام 2003م والتي حددت مرئيات البلدين فيما يجب التركيز على مواصلة بحثه وتطويره. وهذا بالفعل ما تم إذ تواصل منذ ذلك التاريخ توافد لجان ووفود متخصصة لاستكمال دراسة تفاصيل واضحة ومحددة لمجالات التعاون التجاري والاستثمارية والتعليمي والصحي والعسكري والرياضي والثقافي وغيرها وكان آخرها قبل فترة وجيزة عقد اجتماعات للدورة الأولى للجنة السعودية البولندية المشتركة التي عقدت في وارسو وتمخض عنها نتائج إيجابية هائلة. ولا يمكننا أن ننسى التنويه بالدور الذي أداه مجلس الأعمال السعودي البولندي الذي أوجد منتدى دائم لتعاون مستمر بين رجال الأعمال في البلدين في مجالات التجارة والاستثمار والمشاريع المشتركة. ومن الطبيعي أن تثمر هذه الجهود نتائج جيدة فقد تضاعفت التجارة البينية بين المملكة وبولندا منذ بداياتها حتى تجاوزت نصف مليار دولار عام 2008م ثم استقرت نوعاً ما في العام التالي بسبب الأزمة المالية العالمية إلا أنها عاودت الارتفاع بوتيرة أقوى في عام 2010م، وتوقعاتنا من خلال البيانات المتوفرة لدينا أننا سنتمكن -بإذن الله- بنهاية هذا العام من تحقيق رقم قياسي جديد في حجم التجارة البينية، وليسذا فقط إلا أنه كذلك أمكن تحقيق اتزان واضح في الميزان التجاري بما يعني زيادة الصادرات السعودية إلى بولندا.
إن دور جمهورية بولندا على المستوى السياسي من خلال موقعها المتقدم في الاتحاد الأوربي وأيضاً عضويتها الفعالة في المنظمات الإقليمية والدولية، إضافة إلى الإنجازات الهائلة التي حققتها في العقود الثلاثة الماضية في المجالات الحضارية كافة يجعل علينا واجب بذل كل جهد ممكن لتطوير التعاون معها بكل السبل الممكنة. إضافة لما سبق فيجب القول أنه من ضمن العوامل المشتركة بين البلدين السعي الدوؤب لما صار يعرف بحوار الحضارات. فمن ملاحظاتي خلال فترة عملي في بولندا هي الجهود المبذولة من عدة جهات أكاديمية ورسمية واجتماعية ودينية لتنظيم مؤتمرات وندوات واجتماعات عديدة وبعضها بشكل دوري تبحث في الحوار والتعرف على الثقافات الأخرى سعيًا للتعايش المشترك والسلم العالمي وهو نفس سعي المملكة والذي أبرزته مبادرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لتنظيم المؤتمر الدولي الأول لحوار الثقافات الذي عقد في مدريد عام 2008م والمبادرة الأخيرة لإنشاء المركز الدولي لحوار الثقافات والأديان في فيينا. ولم يكن مستغربًا أن تمنح الجائزة الأولى لمؤسسة ليخ فاليسا البطل القومي البولندي الذي أصبح أول رئيس بولندي منتخب بعد عهد الشيوعية في بولندا عام 1990م أن تمنح تلك الجائزة إلى الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، لجهوده في إطار حوار الثقافات وأيضاً لمبادراته الإنسانية، والتي تبرع بقيمتها -جزاه الله خيراً- لإحدى الجمعيات الخيرية.
تعيش المملكة العربية السعودية نهضة مزدهرة في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، فهل للجانب البولندي نصيب من هذه الطفرة العمرانية والعلمية؟
- لا شك أنه يجب أن يكون لبولندا نصيب من هذه النهضة التي تعيشها المملكة، ونحن في سفارة المملكة في وارسو نشجع الجانب البولندي على ذلك سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص من رجال أعمال وشركات على استكشاف الفرص المناسبة وذلك من خلال تزويدهم بالمعلومات والبيانات المطلوبة في حدود ما هو متوفر منها سواء بشكل مباشر أو من خلال البوابة الإلكترونية للسفارة. كما أن على الجانب السعودي في مجلس الأعمال السعودي البولندي المشترك واجب في محاولة استقطاب رجال الأعمال والشركات والمستثمرين من بولندا الذين لديهم الاستعداد والكفاءة للدخول إلى السوق السعودي الواعد. كما أننا نشجع الجانب البولندي من شركات ورجال أعمال على القيام بدراسة فرص الوجود الدائم في المملكة، إما من خلال التسهيلات المتاحة التي توفرها الهيئة العامة للاستثمار أو الجهات الحكومية والخاصة الأخرى، أو من خلال الدخول في شراكة ناجحة ومفيدة مع نظرائهم في المملكة. ومن الأفكار ذات الجدوى إقامة معارض دائمة أو مؤقتة في المملكة أو المنطقة للمنتجات البولندية لإبراز مواطن القوة التي تتميز بها الصناعة والمنتجات البولندية ذات الجودة العالية والسعر المنافس. إنني آمل أن يتم كذلك التفكير في جدوى إنشاء مكتب تجاري بولندي في المملكة يستطيع توفير الدعم القانوني والتشغيلي للشركات الراغبة بالاستثمار في المملكة ويكون قادراً على إعداد دراسات الجدوى وتحديث المعلومات وفرزها وتعميمها على الشركات والمستثمرين الراغبين في الدخول في المنافسات العامة لتنفيذ المشاريع العملاقة المتوقعة حالياً ومستقبلاً خاصة مع صدور قرارات الاعتمادات المالية الإضافية للمشاريع التي أعلنها خادم الحرمين الشريفين بداية هذه السنة لقطاعات الإسكان والبنية التحتية وغيرها من القرارات التي ضخت بلايين الريالات للاقتصاد السعودي. إننا دائماً نذكر الأصدقاء البولنديين أنه للحصول على حصة من المشاريع المزدهرة في المملكة لابد من الوجود في الموقع أي في السوق السعودي نفسه، فلن يطرق بابك أحد وأنت هنا في بولندا ليطلب منك المساهمة في مشروع ناجح أو استثمار مربح، فيجب أن تذهب بنفسك للبحث عنها لأن اقتصاد المملكة هو أكبر وأقوى اقتصاد في المنطقة والمنافسة قوية وشديدة.
رغم حداثة فتح الابتعاث لبولندا إلا أن حجم المبتعثين كبير نسبياً مقارنة بالدول الأخرى، فما مدى تأثير الابتعاث على دعم العلاقات بين البلدين الصديقين؟
- إن الإمكانيات الهائلة لقطاع التعليم العالي في جمهورية بولندا قد جعلها في السنوات الماضية مقصداً مثالياً لطلابنا المبتعثين من المملكة ومعظمهم ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز للابتعاث الخارجي، لدراسة التخصصات الرفيعة كالطب البشري وطب الأسنان والصيدلة والعلوم الهندسية والحاسب الآلي، فقد جاوز عددهم حالياً الستمائة طالب وطالبة يدرسون في عدد من أرقى الجامعات البولندية ذات السمعة الدولية العالية، خصوصاً أنه بعد انضمام بولندا للاتحاد الأوربي أصبحت المناهج التعليمية بها متكافئة مع مثيلاتها في أرقى الجامعات الأوربية الأخرى. ومن العوامل الإيجابية الأخرى التي تميز بولندا إضافة لاستقرار الأوضاع السياسية بها أن الظروف الاجتماعية والحياتية مهيئة لتوفير بيئة دراسية مستقرة لطلابنا المبتعثين، كما أن الجامعات التي يدرسون بها قد أعدت مساراً دراسياً باللغة الإنجليزية يسهل على الطلاب الراغبين بالدراسة بهذه اللغة العالمية. إنني دائماً أقول لأصدقائنا في بولندا إن شباب المملكة من بنين وبنات هم أغلى استثمار لنا للمستقبل ونحن شاكرون لبولندا دولة وشعباً أنها تساندنا في جهد توفير أعلى مستويات التعليم الجامعي المتخصص لهم ليتحملوا مع أقرانهم متابعة مسيرة التنمية والتقدم والتطور لبلدنا الغالي. إنه غير مستغرب أن نقول إن الصداقات الحقيقية التي يبنيها الإنسان والتي تستمر عادة مدى الحياة هي تلك التي يكتسبها أثناء سنوات الدراسة خصوصاً الجامعية منها، لذلك فلا شك عندي أن وجود هذا العدد الكبير من طلابنا السعوديين في الجامعات البولندية سيجعلهم يكونون علاقات زمالة وصداقة مع زملاء بولنديين هم اليوم طلاب مثلهم لكن بعد التخرج سيصبحون جميعاً -إن شاء الله- أطباء ومهندسين ورجال أعمال ومستثمرين وغيرها، وهنا يمكننا أن نتوقع أن يكون كل واحد منهم مساهماً فاعلاً في جهود دعم العلاقات بين البلدين الصديقين على مدى سنوات طويلة في المستقبل.