كنت قد كتبت هنا في الجزيرة عن الاختناقات المرورية في المدن، وذكرت أن من أهم أسبابها خلو مدن المملكة من وسائل النقل العام، سواء كانت باصات (نقل عام) أو قطارات؛ وحمّلت المسؤولية حينها شركة النقل الجماعي، على اعتبار أنها الشركة المحتكرة لهذه الخدمة. كان ذلك في مقال تم نشره يوم الأحد 29 من شهر رجب عام 1431 هـ؛ في العدد رقم 13800. فأجابني مدير عام شركة النقل الجماعي المهندس خالد الحقيل هنا في (عزيزتي الجزيرة) وقال: (إن خدمات النقل العام داخل المدن (خاسرة) في كافة دول العالم، فحسب دراسات الاتحاد العالمي للنقل العام تحتاج هذه الخدمات إلى تغطية 75 % من تكاليف التشغيل ولذلك تقوم الحكومات بتقديمها بصورة مباشرة أو غير مباشرة لحاجة هذا الأسلوب من النقل إلى استثمارات ضخمة وإلى تكلفة تشغيل عالية تمكيناً لها من الاستمرار في تأمين خدمات حضارية، وعلى هذا الأساس كانت الدولة تقوم بدعم الشركة في بداية عملها مقابل الخسائر التي تتحملها في خدمات النقل العام داخل المدن الأمر الذي ساعدها حينها في نشر خدماتها وتوسيع نطاقها وتشغيلها في معظم المدن الرئيسة في المملكة وعلى درجة عالية من الجودة والكفاءة ولكن ومنذ عام 1419هـ تم (إلغاء الإعانة الحكومية) الأمر الذي اضطرت معه الشركة وفي ظل التغيرات الاقتصادية وانعكاساتها على تكاليف التشغيل والصيانة والزيادة المتصاعدة في أسعار المركبات وقطع الغيار والعمالة على كافة المستويات وما يتبع ذلك من خدمات مساندة لأعمال التشغيل إلى مراجعة جداول تشغيلها وتقليص خدماتها في تلك المدن لتخفيض خسائر التشغيل المترتبة على مساهميها من المواطنين الذين يزيد عددهم عن 45.000 مساهم ويملكون 85 % من أسهم الشركة). انتهى.
كلام المدير العام لشركة النقل الجماعي لا يحتمل إلا احتمالاً واحداً مؤداه أنَّ توقف الإعانة من قبل الدولة هو (السبب) في الاختناقات المروية، لأنها منعت الإعانة عن الشركة كما هو العمل في الدول الأخرى. قد أتفهم إيقاف الإعانة المالية لخدمة النقل العام لو أن دخل الدولة يُعاني من الانخفاض، كما كان الوضع في نهاية عقد التسعينات من العقد المنصرم، أما ودخلنا الآن ممتاز، واحتياطاتنا المالية تزيد عن 600 مليار دوار (أكثر من 2 تريليون ريال)، فليس هناك أي سبب يبرر عدم إعانة شركة النقل الجماعي للاضطلاع بخدمة النقل العام داخل مدن المملكة، وحل مشكلة الاختناقات المروية في المدن؛ كما هو الأمر في أغلب الدول التي تقدم هذه الخدمات داخل مدنها.
الرياض وبقية كبرى مدن المملكة تعاني أشد المعاناة من الاختناقات المرورية، ولن أبالغ لو قلت إن مشواراً بين شمال الرياض وجنوبها في ساعات الذروة من النهار قد يتجاوز في زمنه الرحلة بالطائرة بين الرياض وجدة مثلاً. توفير خدمة النقل العام داخل المدن، إضافة طبعاً إلى بعض الإجراءات التنظيمية (المرورية) الأخرى، سيؤدي (حتماً) إلى حلحلة هذه الاختناقات. أي أن الإعانة أصبحت ضرورة ملحة، ويزداد إلحاحها مع مرور الزمن، وتأخير حل هذه المشكلة، يعني أن المشكلة ستتفاقم وتتعقد ويصبح حلها مستقبلاً أكثر كلفة مما هو عليه الآن.
إنني في هذا المقال أناشد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - باستثناء النقل العام في المدن الكبرى في المملكة من إيقاف الإعانة؛ خاصة وأن إعانتها على ما يبدو هي بمثابة (شرط الضرورة) لتوفير هذه الخدمة الملحة. كما أنتهز هذه الفرصة لأشير إلى (اتوبيسات خطوط البلدة) والتي مازلت تعمل حتى اللحظة في مدينة الرياض رغم قدمها، بحجة أن أصحابها يملكون رخصاً، وأن منعهم فيه قطع لأرزاقهم. بالإمكان حل هذه المشكلة بمنح أصحاب هذه الرخص أسهماً مجانية في شركة النقل الجماعي، وتوظيف من يرغب في العمل كسائق في الشركة؛ فهذه الأتوبيسات بصراحة ظاهرة من مظاهر التشوه في مدننا، فهي لا تنتمي للعصر، ولا لمدينة عصرية كالرياض مثلاً، إطلاقاً.
إلى اللقاء.