اللهم لا راد لقضائك، ولا اعتراض على مشيئتك، سبحانك اللهم وبحمدك، سبحانك ما أعظم شأنك خصصت أميرنا الغالي صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز بخصال حميدة، وصفات عديدة، كان التعبير عنها بشكل عفوي لدى كافة أطياف المجتمع الداخلي في المملكة بل والمجتمعات الأخرى. بالأمس عجزت الكلمات عن الوصف، وعجزت التعابير عن إخراج مكنوناتها. بالأمس تجسد النبل، والشهامة، والرجولة والترابط الأخوي بين أطياف المجتمع كافة وعلى رأسها سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، الذي أبى إلاّ أن يستقبل أخاه ويودعه على الرغم من الظرف الصحي الطارئ، وصولاً إلى جميع طبقات المجتمع التي أبت إلاّ أن تشارك.
بالأمس : رأينا المهابة في تشييع الأمير سلطان بن عبدالعزيز، مجتمع مؤمن بقضاء الله وقدره، مسلمين بأن الموت حق.
بالأمس : رأينا عظمة ديننا الحنيف قولاً وفعلاً بأن الناس سواسية في كل شيء حتى في دفن موتاهم.
بالأمس : تلقيت درساً عظيماً كيف أن الإنسان، أي إنسان يفضي إلى ما ذهب إليه فالعمل الصالح هو ما يرفع الإنسان.
بالأمس : أدركت بأن والد الجميع الأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله رحمة واسعة قد أمضى سنين حياته مستثمراً لتلك اللحظات. فقد ودعه عشرات الآلاف إلى مثواه الأخير، ومئات الآلاف في الشوارع، والملايين من خلال شاشات التلفزيون.
بالأمس : أدركت بأن العالم أجمع فقد رجلاً حكيماً ساهم في صنع الأمن والسلم الدوليين، وهذا هو وصف قادة دول العالم في الثلاثة الأيام الماضية.
حينما يجتمع الزمان بدءا من نعي سيدي خادم الحرمين الشريفن لسمو ولي العهد معزياً الشعب، وصولاً إلى استقباله حفظه الله لجثمان أخيه الأمير سلطان وانتهاءً بمكان مواراته الثرى، وكنت خلال تلك الأيام الأربع أترقب وسائل الإعلام وما تقوله أو تنشره، عن الحدث الجلل وقد تأكد لي بأننا فقدنا رجل الأدوار الكبيرة حقاً، يعد الأمير سلطان شاهدا على عدة عصور حقاً، ومشاركاً في النهضة التي شهدتها المملكة خلال عهد الملك عبدالعزيز وعهود إخوانه الملوك الميامين على مدى أكثر من ستين عاماً. وأمام هذا المصاب الكبير، لا أعرف من أعزي، وكيف أبدأ؟
هل نعزي الصغير، أم الكبير، المرأة، أم الفتاة، دور العلم، أم حلقات تحفيظ القرآن الكريم، الجمعيات الخيرية أم المستشفيات، المنظمات الإنسانية أم جهات الحفاظ على البيئة، هل نعزي العالم أم الأمة الإسلامية، أو الأمة العربية هل نعزي الوطن أم القوات المسلحة السعودية، لا شك أن سموه كان ظاهرة بكل المقاييس، وشخصية نادرة وقد لا تتكرر. لقد جاءت الوفاة بحزن عربي وإسلامي وعالمي لمكانة سموه وأثره في علاقاته الشخصية والرسمية، وسجله الناصع شاهد له في العطاء والتفاني وتلمس احتياجات الناس بكل الطبقات وفي مختلف المجتمعات.
يا سيدي حزن عميق يعتصر كل القلوب التي أحبت أمير العطاء والبذل، صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولا شك أن عبارات العزاء والمواساة قاصرة أن تفي حجم فاجعة الوطن في قائد محنك من قياداته، أسهم بحكمته في رسم ملامح حاضر المملكة ومستقبلها . كان ساعداً أيمن لخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز حفظه الله وأسبغ عليه نعمة الصحة والعافيه الدائمة.
وليس لنا من عزاء سوى أن سمو الفقيد ترك لتاريخ الوطن سيرة مجللة بمحبة الدين ونصرته، ثرية بصناعة الأمجاد ، عطرة بمواقف الأفذاذ، ندية بمشاعر الإنسانية، مفعمة بحب الشعب والوطن. لقد نافست أياديه البيضاء كل يد لتقديم العون والمساعدة لمن يحتاجها وشيدت بسخائها صروحاً من المنجزات الإنسانية الفريدة. لقد كان رحمه الله شخصية إدارية رائعة، جمع بين صفتي الحزم واللين بحسب ما تمليه عليه المواقف.
لقد كان شخصية سياسية وعسكرية من الطراز الأول، أنشأ جيشاً نخبوياً يلبي الطموح في الدفاع عن الوطن والمقدسات الإسلامية والمساهمة في المجهود الحربي. والأمير سلطان غفر الله له عاش مع الجيش وفي الجيش وللجيش، تعب الأمير وجهد لبناء الجيش، بل وانتقى أفراده بعناية من بين خيرة الرجال، ثم كرس بينهم مفهوم الأسرة الواحدة وصقلهم فكراً وروحاً وتدريباً رجلا رجلا حتى وصلوا إلى ما هم عليه الآن من كفاءة واقتدار فضلاً عن أنه أقام بنية إنشائية عسكرية مستقبلية بعيدة المدى ووضع لمنسوبي القوات المسلحة فكراً ومنهجاً دائماً أهم بنوده كما كان. يقول رحمه الله (إن الإنسان أهم من السلاح، وإن الاعتماد على الرجل المدرب المؤهل هو الأساس في بناء كل قوة ذاتية وأن سياسة تنويع مصادر السلاح أفضل من حصرها في مصدر واحد). ولم يكتفِ رحمه الله بهذا بل حرص على تفقد كافة المناطق العسكرية، والوقوف على جميع الوحدات الميدانية، في المدن العسكرية، والقواعد الجوية، والأساطيل البحرية، ومجموعات الدفاع الجوي. وفي هذا السياق وعلى مدى خمسين عاماً لا نذكر بأن سمو الأمير سلطان قضى العيد مع أبنائه في قصره بل كان حريصاً على معايدة أبنائه في كافة المناطق وفي العيدين.
ولن أبالغ إذا قلت إن الأمير سلطان قد شاهده جميع منسوبي القوات المسلحة في وحداتهم، وقد صافح منهم باليد الكثير الكثير.
كان رحمه الله في هذا الزيارات يحقق أهدافاً عديدة، منها الوقوف على الجاهزية القتالية، تفقد الوحدات في أماكنها، افتتاح عدد من المشاريع التنموية، وأخيراً الهدف الأسمى ألا وهو ممارسة ما جبل عليه من تقديم العون والمساعدة وحل مشاكل الناس.
وفي هذا السياق هناك مواقف كثيرة لا تعد ولا تحصى وأذكر منها فقط ما تسمح لي مساحة هذا المقال، فمنها أن جاءه أحد قادة الوحدات وشرح له بأن أحد الأفراد ارتكب حادثا مروريا، وفي عنقه ديات لخمسة أشخاص فما كان من سموه إلاّ أن أمر له بتحمل كافة الديات وشراء سيارة للفرد بدل التي فقدها، وفي إحدى هذه الزيارات جاءني أحد الأفراد وكان برتبة رقيب يشكو حاله بأن تعرض (لرمحة بعير) كسرت ساقه على إثرها وأصبح بعاهة مستديمة أبعدته عن الخدمة العسكرية لظروفه الصحية، وجاءني يطلب المساعدة في عرض أمره على سموه الأمير، فطلبه سمو الأمير ليأخذ من رأسه حيث قال الرجل لدي (9) أطفال ولم يدخل اللحم في بيتنا منذ مدة فأمر له رحمه الله بصرف الراتب كاملاً من تاريخ فصله، والبحث له عن وظيفة مدنية تعادل رتبته.
وجاء في إحدى الزيارات أحد ضباط الصف لسموه يشكو قلة الحيلة التي حرمته من إكمال بناء منزله، وقال له رحمه الله: هل تكفيك مائتي ألف؟ فرد العسكري فيها الخير. قال الأمير: أعطوه ثلاثمائة ألف.
ومن المواقف الإنسانية الرائعة، ومن خلال طبيعة عملي الإعلامي كان رحمه الله يحرص على تشجيع الصحفيين السعوديين المرافقين لسموه في الزيارات، وكان دائماً ما يعطي الصحفي المبتدئ حقه من الإجابة، ويحرص أشد الحرص على تشجيعه، وكان لا يتردد في أن يقف لأي سائل، مهما كان حجم السؤال ونوعيته.
لقد امتزجت في دواخلنا مشاعر الأسى والحزن برحيل هذا الرجل العظيم وبقدر هذا الحزن المطبق على نفوسنا إلاّ أننا يجب أن نتذكر بأن لنا الفخر العظيم في خضم هذه الأمواج الهائلة من الفوضى وعدم الاستقرار في أغلب دول المنطقة. إن رحيل هامة في قامة سلطان بن عبدالعزيز اهتز لها العالم، لما لسموه محطات مضيئة وسجل حافل بالأعمال والتقدير محلياً ودولياً. رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
(*) المدير العام لإدارة الشؤون العامة للقوات المسلحة